نسيم الخوري

فتّش عن الخليج العربي أينما كنت، حيث لن تتمكّن من الأسئلة الكثيرة والعقد المالية والاقتصادية الكثيرة إن لم تكن مسكوناً بهدأة الخليج وبساطته وكنوزه الوفيرة النازلة عليه من فوق والفائرة في أرضه من تحت .

نعم فتّش عن الخليج! كلّهم يفتّشون عن الخليج سواء أكانوا يهرشون رؤوسهم وهم يبحثون عن الطرق التي تقفز بهم كدول عظمى وكبرى وصغرى الى قمم الأهرامات الاقتصادية والحضارية حسب تعريفاتهم وغيرها، أو عندما يتعثّرون في تنافسهم صعوداً نحو تلك القمم فيغرقون في أزمات دولية وإنسانية وكوارث وأمراض طبيعية أو اصطناعية تهزّ العالم من جذوره ونبدو جميعاً كأننا نقرع أبواب القيامات وأقصد النهايات . فمن دون ما يبعثه الخليج في نفسك من ضمانات توفّر القدرة على التفكير، أنت لن تفهم الأسباب الحقيقية لأزمة اليورو الذي يبدو كأن الدولار قد رفعه الى السطح ورمى به من فوق من الأعالي حيث لا مقاعد وفيرة بعد اليوم لا للاعتبارات الوطنية أو المصلحة العامة، بل للشركات واللوبيات الصناعية والعسكرية ومثلها الشركات النفطية الضخمة التي تتصدّر مقاعد العالم الأولى وهي التي تقرر مصيره حالياً كما تحدّد استراتيجية البقاء للأحادية القطبية العالمية من دون منافس على مدى القرن الحادي والعشرين الحالي الذي خُطط له لأن يكون قرناً أمريكياً .

تلك أزمة أولى أو حبّة في سلسلة من الأزمات المالية المنتظرة التي تشغل ذهن العالم، والتي بدأت من أثينا حيث ظلّ الفكر الإغريقي منذ 4 آلاف سنة قبل الميلاد قائماً في كلّ فكر في أوروبا الموسومة بالشيخوخة أو في أي قارة تحلم بالإبداع والتقدّم . السؤال الأكبر اليوم هو: ما هو مستقبل تلك الدول الأوروبية المصفوفة في خيط من الحديد الصلب والتي تبدو كأنها ldquo;تزحطrdquo; من أمكنتها، فتنفرط سبحتها، ووجوهها تبدو أكثر سواداً من الفحم الحجري الذي منه وعليه أسّست وانطلقت بالأمس بحثاً عن وحدتها التي تبدو كأنها لم تدم أو لن تدوم مع أنّ ولادة الاتحاد الأوروبي جاءت كأنها أمس، أي إثر التوقيع على معاهدة ldquo;ماستريختrdquo; في هولندا في 7 فبراير/ شباط ،1992 وهي جاءت متزامنة مع انفراط عقد الاتحاد السوفييتي في العام 1991؟ نعم أمس حيث برزت خطوات الاندماج والتوحّد الاقتصادي والسياسي وصولاً إلى قيام كتلة الاتحاد الأوروبي الذي بات يضم 27 دولة أوروبية حتى مطلع يناير/ كانون الثاني ،2007 وإلى ظهور العملة الأوروبية الموحدة ldquo;اليوروrdquo; في العام ،1999 والتي باتت عملة قطبية منافسة للدولار الأمريكي مع مطلع العام 2002 .

ماذا عن المجر والبرتغال وإسبانيا وإيرلندا أمام الحليف الأطلسي العاجز أو الممتنع عن العون على الرغم من التعهدات الخطابية الخاوية والوعود التي لا تقدّم حبة خردل في مسار الانهيار المقبل؟ وبعيداً عن أوروبا وأمريكا هناك في البرازيل والهند والصين، ثمة دعوات لمواجهة واقع أن أوروبا تضمر كقوة دولية أو مجموعة دول، ليس بسبب الحفرة القائمة أبدياً بين شمال وجنوب، لأن بريطانيا وإيرلندا على عتبات أزمات مالية مماثلة لمأزق اليونان، وليس بسبب التدفقات والهجرات الإسلامية فقط لأن الهجرات حق مقدّس من حقوق العولمة وزوال الحدود بين الدول والشعوب، وسواء أكانت من الشرق أم من الهند أو من إفريقيا التي تشكّ أقلام الرصاص متأخّرة في شعرها الكثّ، فإنّها تبدو كأنها اغتصاب مباشر لفكرة النقاء أو الصفاء الأوروبي والغربي عموماً . وهنا قد يسمح الباحث لنفسه بالتفكير مليّاً في السلوك التركي المستجد الذي أقفل أبواب أوروبا البعيدة عن أحلامه فقطّب جبهته واتّجه جنوباً نحو المسلمين والعرب، والخليج قائم في وسادته . سيستمر التدفق البشري والاختلاط في الدروب العمودية كما الأفقية بحراً وبراً وجوّاً الى أوروبا كما الى غيرها، فتمتزج الألوان والقناعات والديانات والأفكار والتقاليد والعادات ولو أن الأنظمة بقيت مسمّرة على أبواب الفكر المتمسّك بالهويات المندثرة إن لم نقل المنقرضة .

نعم سيستمرّون في التفتّيش عن الخليج الذي يسمح لهم بالتفكير وحلّ الأزمات والقعود حول الطاولات البيضاوية والمستديرة بهدوء وخوض غمار البحار وركوب الفضاء والكواكب . فالخليج العربي بمعناه الواسع هو محرّك الدولاب، الاختراع الأبلغ والأقوى والأول الذي سحب الإنسان من حفرته بعدما أسقطه من فوق حاملاً تفاحته المأكولة نحو حفرة لا قاع فيها أو قرار . نعم الخليج بزيته ومائه هو الذي أسهم بتزيين الإنسان بحركته محققاً دورته الجغرافية التي تجعل منه الرحم العالمي الذي يبعث الدفء في أجساد القارات الباردة الأمريكية والأوروبية، والذي لولاه في مخزون الطاقة مثلاً التي تؤمن الحياة للكرة بما فيها وما عليها لعادت الدول تدفن أحلام تنميتها ومشاريعها وتطورها وأفكارها في أرحامها المندثرة الأولى .

لماذا الخليج؟ لأنه نقطة الجذب الكبرى في الذهنين الأوروبي والأمريكي، ومصدر الطاقة، السلعة الاستراتيجية الأهمّ في العالم، تقوم في قلب الحاجات الصناعية وفي تعزيز تراكمات الرأسمال سواء عبر الإيداعات المالية كاحتياطيات بالعملات الصعبة من جهة، أو عبر التوظيفات التنموية الاستثمارية . وإذا كانت أمريكا قد اعتلت قمة الرأسمالية بعد الحرب العالمية الثانية، فإنّ أوروبا التي هزّت جذورها الحروب المدمرة راحت تتجاوز صراعاتها بهدف تجربة الاتحاد الأوروبي طموحاً إلى قيام القطبية الأوروبية على الصعيد الدولي . لكن أوروبا التي كانت تحافظ على استواء كفتي الميزان بين السوفييتي والأمريكي، راحت تحلم بعد انفراط السبحة السوفييتية بتقديم نفسها على أنها المنافسة المتقدّمة لدولة العولمة القطبية في العالم التي قالت بrdquo;الوان وايrdquo; لا ldquo;الهاي وايrdquo; في زعامة العالم . ومن غير المسلّم به أمريكياً الخروج الى من يقاسمها ldquo;الهاي وايrdquo; لأنها الدولة العظمى التي تبغي طرقاتها الأوسع والأعرض وسياراتها هي الأكبر وثلاجاتها وأسلحتها وناطحات سحابها هي الأعلى ولو انطوت واندثرت في عقر دارها، حتّى كأنها لا تقبل بمصيبتها إلاّ كبيرة عندما هوى البرجان، وهي حتماً لن تقبل مصائب غيرها إلا كبيرة حيث ترى أوروبا تهوي بدورها أو ينفرط يوروها حبات حبات .