محمد كريشان


ما حصل في تونس من ثورة شعبية أطاحت بالرئيس السابق رائع بكل المقاييس لكن ما يجب التركيز عليه الآن هو أن تقع الإطاحة كذلك بكل القوانين والممارسات التضييقية والأجهزة والهيئات القمعية التي رافقت حكم بن علي. وبما أن هذه الثورة أسقطت هرم السلطة ولم تسقط النظام، فهي مدعوة إلى العمل بجد ومثابرة ويقظة لا حدود لها من أجل أن تـُـــسقط وإلى غير رجعة كل العقليات الإقصائية والمؤسسات التسلطية ومفهوم الحزب الحاكم الواحد وكل مظاهر شبق الانفراد بالحكم والتضييق على الناس وعدّ أنفاسهم وتزييف إراداتهم والاستهزاء بنضجهم وذكائهم.
التونسيون رغبوا بقوة وبصدق في أن يختفي من الساحة بالكامل وإلى الأبد ليس فقط الرئيس وبطانته وإنما أيضا نظامه وحزبه الجاثم على صدور الناس لأكثر من نصف قرن وأجهزته والرموز التي عملت معه وكل ما يمكن أن يذكّــــر به من قريب أو بعيد، لكن واضح الآن أن مثل هذه الرغبة كدّرها الخوف من الفراغ أو المجهول وأرعبها غياب البديل المقنع الجاهز.
لهذا لم تثمر هذه الثورة، على ما يبدو وإلى حد الآن على الأقل، إلا ما أثمرته. مع ذلك هذه الثمرة ليست بسيطة حتى وإن كانت غير مكتملة بعد. إنها تحتاج بقوة، ومن الآن فورا، إلى جهد يومي متواصل لإنضاجها حتى تكتمل تدريجيا ملامح التغيير الحقيقي الذي خرج من أجله الناس وسقط الشهداء في ملحمة فاجأت كثيرين ممن ظنوا أن ثلاثة وعشرين عاما من حكم بن علي نجحت فعلا في تحويل التونسيين إلى الأبد إلى مجموعة من المنافقين أو المستقيلين أو الخائفين.
التونسيون على ما يبدو مستعدون إلى الصبر قليلا، في حدود معينة وبنوع من الغيظ المكتوم، لقطف هذه الثمرة، لكنهم لن يرحموا بالتأكيد من قد يسعى إلى سرقة أحلامهم أو مصادرتها أو الالتفاف عليها أو تمييعها. من هنا قد لا تكون حكومة الوحدة الوطنية المؤقتة هي طريق الخلاص وإنما اللجان والورشات الني ستشرع في العمل قريبا.
هذه الحكومة ضمت وجوها ذات سمعة طيبة وشخصيات مستقلة وحقوقية إلى جانب تكنوقراط مشهود لهم بالكفاءة، حتى وإن عملوا في حكومة الرئيس الهارب المخلوع، لكنها ضمت أيضا وجوها مهترئة أو موصوفة بالانتهازية. وطالما أن هذه الحكومة ستكون مؤقتة لستة أشهر فقد لا تكون هي من سيحدد مستقبل المشهد السياسي للبلاد في الرحلة المقبلة وإنما جملة القرارات الإنفراجية التي أعلنت الاثنين. أما الأهم فهو تأسيس لجنة للإصلاح السياسي لتغيير القوانين الأساسية المنظمة للحياة السياسية والتحقيق في التجاوزات التي حصلت عند قمع المظاهرات الأخيرة وفتح ملفات الفساد والتعديات على المال العام وأملاك الدولة التي برع فيها المقربون من عائلة الرئيس السابق وزوجته وأصهاره والتي جعلتهم في سنوات قليلة من أصحاب الملايين.
و طالما أن الفترة الانتقالية لحكومة الوحدة الوطنية حددت بستة أشهر تجري في أعقابها انتخابات حرة ونزيهة تحت إشراف هيئة مستقلة وبحضور مراقبين دوليين فإن هذه الفترة يجب أن تخضع لمراقبة صارمة لا تكل أبدا من كل المناضلين السياسيين والحقوقيين ونشطاء المجتمع المدني وشباب الفايسبوك التونسيين الرائعين حتى لا يتركوا شاردة ولا واردة لتقويم المسار والتنبيه والتحذير لأي انحراف. هذا هو الضمان الأساسي لمرحلة مقبلة تقطع بالكامل مع النظام السابق وترسي أسس نظام مختلف مبني على قوانين سياسية جديدة وعصرية في كنف الحرية والشفافية والمحاسبة، نظام لا يقصي أحدا ويتعايش فيه الجميع وفق ما ستفرضه إرادة التونسيين في انتخابات حرة وغير مزورة لأول مرة في تاريخ تونس المستقلة.
لا مجال لإعطاء الفريق الحاكم الجديد شيكا على بياض فالتونسي ليس مستعدا لأن يلدغ من نفس الجحر مرتين. فعلوها من قبل مع بن علي ودفعوا ثمنها غاليا لأكثر من عقدين ويجب ألا يسمح بذلك ثانية مهما كان الأمر. أما السياسيون والصحافيون الذين كانوا من أمقت الوجوه في الساحة التونسية والذين شرع بعضهم من الآن في تغيير جلودهم لمواكبة ما حصل والانخراط في النسق الجديد بكل وقاحة، كما فعلوا هم أنفسهم أو غيرهم بعد الإطاحة بالحبيب بورقيبة من قبل، فيجب أن يقال لهم من الآن بصوت عال مدو أن أخرسوا واخجلوا من أنفسكم قليلا، أو كما يقول التونسيون 'إحشموا شوية'!