صادق ناشر


يشكل يوم الثالث من شهر يونيو/ حزيران الجاري حدثاً فاصلاً في تاريخ اليمن واليمنيين، ففي هذا اليوم جرت محاولة اغتيال الرئيس علي عبدالله صالح، الذي حكم اليمن لمدة تزيد على ثلاثة قرون، عندما كان يحتمي في قصره، أي في دار الرئاسة . فقد كانت عملية الاغتيال لا تخطر على بال أحد بمن فيهم الرئيس نفسه، إذ جرت وهو يؤدي صلاة الجمعة مع عدد من كبار قادة ومسؤولي البلد، حيث أصيب الرئيس صالح بجروح بليغة، بالإضافة إلى إصابة عدد آخر من المسؤولين، من أبرزهم رؤساء مجالس النواب (يحيى الراعي) والوزراء (الدكتور علي مجور) والشورى (عبدالعزيز عبدالغني) .

عندما نتحدث عن هذا التاريخ الفاصل في تاريخ اليمن واليمنيين، فلأننا ندرك حجم الصعوبات التي تواجه اليمن في هذه الظروف، التي تجعل من الخوف على مستقبل البلد أمراً مبرراً . صحيح أن الرئيس صالح خارج البلاد اليوم، إلا أن أدواته في الحكم لا تزال تعمل، ويخطئ من يعتقد أن الرئيس صالح قد ترك الساحة، وهو على سرير في أحد المستشفيات السعودية يتلقى العلاج .

كل من يعرف الرئيس صالح يدرك أن الرجل لا يرمي كل أوراقه دفعة واحدة، كما أنه سيلعب بكل ما لديه من أوراق في سبيل البقاء في دائرة صناعة القرار، إضافة إلى ذلك فإن صالح يتمتع بدهاء سياسي أكسبته إياه العقود الثلاثة، ولطالما كان يتفاخر بأن الحكم في اليمن أشبه ب ldquo;الرقص على رؤوس الأفاعيrdquo;، لكن الواقع في اليمن تغير كثيراً، فلم يعد اليمن اليوم كما كان يعرفه صالح قبل سنوات أو حتى قبل أشهر عندما بدأت ثورة الشعوب العربية في الانطلاق بدءاً من تونس، مروراً بمصر وانتهاء باليمن .

يدرك صالح وأنصاره أن الوقت لم يعد يلعب لصالح الرئيس الذي تحسب له قدراته العالية في التماسك عند الملمات، ويجب على مناوئيه ألا يعتقدوا أنه بمغادرته اليمن للعلاج يكون قد فقد كل شيء، غير أن وضع الأمور في نصابها اليوم يجب أن يكون هو المعيار الحقيقي للقوى السياسية في المستقبل عند التفكير ببناء اليمن من جديد .

صحيح أن حظوظ الرئيس صالح في البقاء في الحكم تتضاءل يوماً بعد يوم، بخاصة مع سقوط القتلى والجرحى الذين يواجهون قوات الأمن بصدورهم العارية، إلا أن الوقت لم ينته بعد، وأعتقد أن المستقبل حافل بالكثير من المفاجآت للثورة والثوار ولمستقبل اليمن ككل .

اللعبة الخارجية

بمجرد مغادرة الرئيس علي عبدالله صالح اليمن للعلاج، اعتقد كثيرون أن ldquo;اللعبة انتهتrdquo; وأن بقاء الرئيس في الحكم أصبح في حكم المنتهي، إلا أن صالح لم يترك اليمن للفراغ، بخاصة الأمني، أما السياسي فإن وجود نائبه عبدربه منصور هادي لا يزال يحظى بثقته، لكن وعلى الرغم من هذه الثقة، فإن الرئيس صالح لم يمنحه تفويضاً بصلاحياته، وظل الرجل يمارس مهامه بصفته نائباً للرئيس وليس كقائم بأعمال الرئيس، على الرغم من أن نائب وزير الإعلام عبده الجندي قال عند الساعات الأولى لمغادرة صالح البلاد في طريقه إلى السعودية، أن الرجل سلم صلاحياته إلى نائبه بموجب الدستور .

وظلت وسائل الإعلام الرسمية تتعامل مع صالح كرئيس ومع هادي ك ldquo;نائبrdquo;، ولم تمنحه لقب ldquo;القائم بأعمال الرئيسrdquo; بموجب النصوص الدستورية، وكأن الرئيس في مهمة نقاهة وليس في مهمة علاجية أو في وضع صحي حرج، وهذا يدل على أن صالح لا يريد أن يرمي بكل أوراقه دفعة واحدة، وحتى الأنباء التي تتحدث عن ضغوط خارجية لإجبار الرئيس على التنحي لا تبدو أكثر من توقعات، فالولايات المتحدة الأمريكية تدرك أن اليمن بتعقيدات وضعه السياسي والأمني والقبلي لا يمكن التعامل معه بنفس التعامل الذي حدث مع دول أخرى، مصر نموذجاً، والمملكة العربية السعودية لا تزال غير قادرة على التعاطي الواضح مع الأزمة في اليمن، فهي لا تريد إغضاب الرئيس وأنصاره، وتتعامل مع الأمور بنوع من التوازن الذي يحقق ويلبي الانتقال السلمي للسلطة عبر تنفيذ المبادرة الخليجية التي تقدمت بها دول مجلس التعاون لحل الأزمة في البلاد .

هل يعني ذلك أن العنصر الخارجي صار يتحكم في طريقة إيجاد مخرج سلمي للسلطة؟ وهل يمكن أن يكون هذا التدخل فرصة لإيجاد الحل الذي يجنب البلاد حرباً أهلية سبق أن لوح بها صالح في مقابلات آخرها أجرتها معه قناة ldquo;العربيةrdquo; قبل نحو شهرين، اعتبر فيها اليمن ldquo;قنبلة موقوتة قابلة للانفجار في أية لحظةrdquo;؟

المراقبون للوضع في اليمن والمدركون لطبيعة التعقيدات التي تواجه البلاد، يرون أن الحل الأمثل يكمن في استغلال وجود الرئيس صالح خارج البلاد لإعادة ترتيب البيت اليمني ldquo;السياسي والأمني معاًrdquo; تجنباً لانزلاقه نحو حرب أهلية شاملة، خاصة أن كافة مؤشرات هذه الحرب متوفرة على الأرض، عبر إقناع الرئيس صالح بنقل صلاحياته إلى نائبه الذي يجب أن يدعو بعد ذلك إلى إجراء انتخابات رئاسية جديدة، بمعنى آخر أن على الوسطاء الخليجيين والغربيين أن يعيدوا صياغة المبادرة الخليجية لتكون مرنة وقابلة للتطبيق واختصار بعض بنودها أو إحلال بند عوضاًعن آخر لتكون مقنعة لكافة أطراف اللعبة السياسية، ولا بد للجميع في الساحة السلطة والمعارضة معاً التسليم بضرورة التعاون على إنجاح المرحلة المقبلة، بشكل يحافظ على نقاء الثورة الشبابية بطابعها السلمي ويحفظ للنظام حقه في التنافس في هذه الانتخابات كشريك أساس في اللعبة الديمقراطية في البلاد، بمعنى آخر يجب ألا يفهم أن تسليم الرئيس السلطة لنائبه البدء ب ldquo;تفكيكrdquo; حزب المؤتمر الشعبي العام الحاكم، بصرف النظر عن كونه حزباً تابعاً للسلطة أو أن مؤسسه قد رحل، لأن هذه سنة يجب ألا يفتتح بها اليمنيون مرحلتهم الجديدة .

الخروج من الأزمة

محبو اليمن يعتقدون أن الوقت صار مناسباً ليتفرغ اليمنيون لبناء حياتهم الجديدة بعيداً عن القلق والخوف من القادم الغامض، فاليمن طوال تاريخ ثورتيه الممتد إلى خمسين عاماً، على مستوى الشمال والجنوب، عانى الكثير وحان الوقت ليبدأ أهله بإعادة بناء حياتهم بشكل أفضل، يجب ألا تعاد تجربة خمسين عاماً من التخبط والتجريب فيما هو غير مفيد للبلاد والعباد .

لقد حكم الرئيس صالح اليمن ل 33 عاماً، غابت فيها دولة المؤسسات الحقيقية، وعاث الفساد في كل أركان الدولة التي فصلت على مقاس صالح ليبقى حاكمها إلى الأبد، ولم يكن يعتقد أن رياح التغيير يمكن أن تأتي لتقتلع هذه الدولة التي أضعفها لعب صالح بالرقص على رؤوس الثعابين، لقد كان يعتقد أنه سينجح في تأمين بقاء دولته من دون أن تتعرض إلى خضات عنيفة، بعدما لجأ إلى تأمين حماة لهذه الدولة فجاء بنجله الأكبر أحمد ليرأس قوات الحرس الجمهوري والقوات الخاصة، ثم عين نجل الأصغر خالد ليرأس لواء مشاه جبلي، مع أنه خريج حديث العهد، ومنح قوات الأمن المركزي لنجل شقيقه يحيى محمد عبدالله صالح، وتولى نجل أخيه الثاني طارق قوات الحرس الخاص وشقيقه عمار جهاز الأمن القومي، بالإضافة إلى دائرة كبيرة من المقربين الذين أمسكوا في مفاصل الدولة العسكرية والمدنية والدبلوماسية على حد سواء .

لم يكن الرئيس صالح يعلم أن غياب دولة المؤسسات والاستعانة بدولة الأقارب هي التي ستأتي على حكمه، فقد ضاق الناس من الحكم العائلي، ومن التحالفات التي تدمر الدولة لا تبنيها، بخاصة التحالفات القبلية، وهي القضية التي برع فيها صالح طوال سنوات حكمه .

كما أن صالح تجاهل قضية مهمة أخرى عصفت بنظام حكمه عندما ألغى الشراكة الجنوبية في الحكم، فقضى، من حيث أراد أو لم يرد، على النسيج الاجتماعي الكبير الذي كان يميز اليمنيين قبل الوحدة وبعدها بسنوات، قبل أن تأتي الحرب الأهلية التي شهدتها البلاد العام 1994 لتقتلع هذا النسيج من جذوره، بخاصة أنه تم تأميم كل شيء يمت بصلة للدولة الجنوبية التي كانت شريكاً أساسياً عند إعلان دولة الوحدة عام 1990 .

وخاض صالح ست حروب عبثية في صعدة (2004 2010) أنهكت البلد وأخرجته مدمراً، وقضت على اقتصاد البلد المنهك أصلاً، فخسرت آلاف الضحايا، بالإضافة إلى مليارات الدولارات، ثم تحولت صعدة في نهاية الأمر إلى أشبه بمقاطعة خارجة عن قبضة الدولة، فهل هذه هي الدولة التي كان يحلم بها اليمنيون عندما ثاروا على نظام حكم الإمامة عام 1962 وعلى الاستعمار البريطاني في الجنوب عام 1963؟

لذلك يرغب اليمنيون في استعادة دولة الوحدة بمضامينها الاجتماعية التي تحققت بها، أي بشراكة حقيقية تضمن للجميع المساواة في الحكم والثروة وقبلها المواطنة المتساوية، فالجنوبيون طوال سنوات ما بعد الحرب عانوا الكثير من الظلم والقهر، لهذا خرجوا إلى الشوارع للمطالبة بحقوقهم القانونية، وعندما لم يستمع لهم أحد بدأ صوت الانفصال يتعالى أكثر وأكثر، وجاء وقت ظن فيه البعض أن هذا الخطاب لن يزول، إلا أن الأشهر القليلة الماضية، بخاصة تلك التي شهدت أعمالاً احتجاجية لإسقاط النظام ورحيل الرئيس صالح، دفعت بقطاع كبير من الجنوبيين إلى إعلان تأييدهم للتغيير بعدما شعروا أن هناك مشروعاً كبيراً للتغيير في اليمن الموحد .

ربما من هذه الزاوية على النظام الحاكم في اليمن أن يعي أن الرغبة في التغيير أصبحت جارفة لدى اليمنيين كافة، وحتى في أوساط أنصار النظام نفسه، فالمعروف أن هناك شخصيات على قدر كبير من الكفاءة في داخل الحزب الحاكم تريد أيضاً التغيير الذي ينقل البلد إلى الحداثة والعصرنة، عوضاً عن بقائها مرتهنة لعطايا الخارج، بخاصة أن البلد تتمتع بثروات هائلة، وهناك قوة بشرية كبيرة تستطيع أن تحول البلد إلى قوة إقليمية لا يستهان بها .

على النظام أن يدرك أن جر البلاد إلى مواجهات وإلى أعمال عنف لن يفيد الجميع في شيء، بل إنه سيزيد البلد ضعفاً على ما هو عليه من ضعف، وسيدخله في أتون حرب أهلية لا تبقي ولا تذر، وعلى القوى السياسية كافة أن تعمل على تأسيس حقبة جديدة في تاريخ اليمن من خلال نبذ الانتقام والثأر، السياسي منه أو القبلي، وأن يتوجه الجميع إلى بناء دولة مدنية تضمن للجميع تبادلاً سلمياً للسلطة، لا تكريساً للاستبداد، فالبلد لم يعد يحتمل مزيداً من الخضات التي مرت بها خلال فترات الصراع السابقة، فتلك مرحلة يجب أن يرميها الجميع خلف ظهورهم .

من هنا يجب التحرك، بمساعدة الخارج، لإيجاد مخرج سياسي حقيقي بنقل السلطة بشكل سلس إلى مجلس انتقالي يتم تشكيله من كافة القوى السياسية أو إلى نائب الرئيس الحالي عبدربه منصور هادي، الذي يجب عليه التقاط هذه اللحظة التاريخية ويتصدى لمهمة إعادة البلد إلى السكة الصحية، لأن غير ذلك يعني إدخال البلد في دوامة من العنف لا يمكن أن تنتهي .

وعلى الرئيس صالح أن يقتنع أنه أدى ما عليه طوال هذه السنوات التي حكم فيها اليمن، أصاب في بعض محطاتها وأخطأ في بعضها الآخر، وعليه أن يدرك أن زمن القبضة الحديدية قد ولى، وأن زمن توريث الحكم لم يعد ينفع في ظل المتغيرات الجديدة التي يمور بها العالم اليوم، ويُخشى أنه مثلما ظل يتفاخر طوال سنوات حكمه بالقضاء على حكم الإمامة في الشمال عن طريق ثورة، أن يكتب في صفحات التاريخ القادم أنه تم إخراجه عن طريق ثورة، وهو رجل يمتلك الكثير من الذكاء والفطنة ليدرك أنه ما زال بإمكانه أن يصنع شيئاً يحسب له في هذه الفترة الحرجة من تاريخ اليمن، حتى إن كان ذلك التضحية بسلطته التي لا شك أنها اهتزت كثيراً منذ اندلاع ثورة الشباب في الحادي عشر من شهر فبراير (شباط) الماضي، فقد أدرك أن القدرة على ضخ دماء جديدة في شرايين الدولة المتهالكة صارت ضعيفة .

إن أراد صالح أن يحافظ على تاريخه فإن عليه أن يسلم الأمانة لصاحبها، أي أن يسلم السلطة للشعب، صاحب المصلحة الحقيقية في السلطة، وعليه أن يجنب البلد مخاطر الانزلاق إلى مواجهات عنيفة تقود إلى حرب أهلية، والتي ستطمس كامل تاريخه الذي حاول أن يكرسه لنفسه طوال 33 سنة مضت .

الرئيس ومعه حزبه الحاكم وأنصاره على المحك اليوم لإثبات حبهم لليمن، والتعبير عن هذا الحب يجب ألا يترجم على شكل إصرار على البقاء في السلطة تحت اعتقاد أنه لا يمكن تسليمها إلى ldquo;انقلابيينrdquo;، ذلك أن التاريخ لن يرحم من كان ومن سيكون السبب في تعليق عضوية اليمن في حظيرة الدول المتحضرة، سيكون على الجميع التعاطي الايجابي مع التطورات الأخيرة بشكل يجنب اليمن كل مكروه، وعلى الجميع إدراك أن صناعة التاريخ تستمر عقوداً طويلة، أما هدمه فإنه لا يستغرق سوى أيام إن لم يكن ساعات .