عبد الله بن بجاد العتيبي


تشهد المنطقة العربية بعد الربيع الإخواني صراعات متعددة بعضها ذو إرثٍ قديمٍ وبعضها جديدٌ أو متجدد، فثمة محاور سياسية قديمة اهتزّت ومحاور أخرى هي في طور التشكّل ولمّا تصل لنهايتها بعد.

من أهمّ هذه المحاور الجديدة المحور الأصولي أو الإخواني، ذلك الذي وصل لسدّة الحكم في تونس ومصر، وغيرهما على الطريق، إنّ هذا المحور تعبّر عنه تصريحات رموز الإخوان وقياداتهم في مصر بلد الجماعة الأمّ كما في بقية البلدان العربية، وبخاصةٍ في دول الخليج العربي؛ حيث بدأ رموز الإخوان المسلمين هناك يظهرون على السطح، وشرعوا ndash; بوعيٍ - في مناكفة المواقف السياسية لبلدانهم داخليا وخارجيا.

إذن، ثمة محورٌ إخواني يتشكل في العالم العربي، شكك البعض في وجوده بل دعا لدعمه والتحالف معه بدعوى أنّه محورٌ يمكن أن يكون حليفا صادقا وأمينا لدول الخليج، غير أنّ الإخوان لم يلبثوا أن خيّبوا ظنّ من يتبنّون هذا الطرح، وبدأوا - ولمّا تستقر لهم الأمور ببلدانهم - في التهجّم على دول الخليج، وقد اختاروا البدء بدولة الإمارات العربية المتحدة، وذلك حين قام يوسف القرضاوي بإطلاق تصريحاتٍ تحريضيةٍ ضدّ الإمارات عبر برنامجه laquo;الشريعة والحياةraquo; على قناة laquo;الجزيرةraquo; وكان مما قاله إنّ laquo;الإمارات هم بشرٌ مثلنا، إن كانوا يظنون أنهم آلهة فوق الناس فهم مخطئونraquo; وهذا قولٌ مرسلٌ غرضه التحريض، فلم يزعم أحدٌ من الإماراتيين أنّهم آلهةٌ ولا يعقل أن يصدر هذا القول من عاقلٍ، ثم تحدّث عن الشأن الداخلي في الإمارات وطريقة تعامل الدولة مع مواطنيها فقال: laquo;وبعضهم يسلبون منه الجنسية، هذا حرام، هذا لا يجوزraquo; وهذه لغةٌ دينيةٌ بحتةٌ، غير أنّ ما لا يعرفه الكثيرون من متابعي القرضاوي هو أنّ الدولة التي يحمل القرضاوي جنسيتها (قطر) قد سلبت الجنسية من بضعة آلافٍ من مواطنيها قبل سنواتٍ ولم ينبس القرضاوي حينها ببنت شفةٍ ونسي لغته الدينية والحرام والحلال.

لم يكتف الإخوان بتصريحات القرضاوي ولكنهم أتبعوها بتصريحاتٍ للمتحدث الرسمي باسم الإخوان المسلمين في مصر laquo;محمود غزلانraquo; تهدّد الإمارات بتجييش العالم الإسلامي ضدّها، ثمّ تقافز عددٌ من رموز إخوان الخليج من أكثر من بلدٍ نصرةً للقرضاوي وتهجما على الإمارات، فيما يشبه نموذجا لاستراتيجية إخوانية جديدةٍ للتدخل في شؤون دول الخليج.

إنّ هذا كلّه ينبغي أن يتمّ أخذه في سياق الانتشاء الذي تشعر به جماعة الإخوان المسلمين وجماعات الإسلام السياسي تبعٌ لها في لحظة الربيع الأصولي العربي.

إنّ القرضاوي حين اختطف منصة ميدان التحرير من شباب الثورة في مصر لم يفعل ذلك اعتباطا ولكنّه مؤسسٌ لديه على منهجٍ قديمٍ استقاه من حسن البنّا وفي هذا ينقل القرضاوي عن البنّا موقفه من laquo;المظاهرات السلميةraquo; وصولا لـlaquo;يوم الدمّraquo; فيقول: laquo;إنّه يأسف، لأنّه كان يريدها مظاهرةً سلميةً، لا لأنّه يعتقد أنّ حقوق مصر تنال بالمظاهرات السلمية فقط، ولكن لأنّه يرى أنّ الوقت لبذل الدمّ لم يحن بعد، وأنّ كل القوّة وكل البأس يجب أن يدّخر ليوم الدمّraquo; (ابن القرية والكتّاب 1/254).

مع الاحتجاجات العربية يبدو من مواقف القرضاوي أنّه يرى أنّ laquo;يوم الدمّraquo; قد حان، فبدأ بإظهار كل القوة وكل البأس، فهو قام وفي ظلّ الظروف الصعبة التي مرّت بها ليبيا بإصدار فتوى بوجوب اغتيال القذّافي، وعلى الرغم من كل مساوئ القذّافي فإنّ هذه الفتوى خطيرةٌ، وهي فتوى لم تأت بتأثير نشوة الربيع الإخواني فحسب بل هي منهجٌ قديمٌ لدى القرضاوي، حيث يذكر عن نفسه وعن شباب الإخوان: laquo;ولقد قابلنا - نحن الشباب والطلاب - اغتيال النقراشي بارتياحٍ واستبشار، فقد شفى غليلنا ورد اعتبارناraquo; (1/337) بل ومدح عبد المجيد حسن قاتل النقراشي شعرا بقوله:

laquo;عبد المجيد تحية وسلام / أبشر، فإنك للشباب إمام

سمّمت كلبا، جاء كلبٌ بعده / ولكل كلبٍ عندنا سمّامraquo;.

والشطر الأخير تمجيد لعمليات الاغتيال والقتل وأنّها منهج إخواني أصيل لم يزل القرضاوي يعتنقه ويؤمن به، واغتيال النقراشي كان جريمةً سياسيةً شنيعةً تعب الإخوان كثيرا في محاولة محوها من تاريخهم. انتقد القرضاوي سيد قطب في أكثر من كتابٍ من كتبه، غير أنّ نشوة الربيع العربي دفعت القرضاوي ليعود لمنهج قطب المتشدد مع استحضار أنّ سيد قطب الذي كان يشرف على إصدار نشراتٍ سريةٍ ثوريةٍ للإخوان المسلمين ضد الناصرية لم يكن يثق بالقرضاوي، فمما جاء في تلك النشرات: laquo;إن القرضاوي والعسّال قد مرقا من الدعوة، وانضما إلى ركب الخونة، وعلى الإخوان أن يحذروا منهماraquo;.

تحدث القرضاوي مرارا عن منهجه الذي ارتضاه وهو حسب قوله: laquo;التيسير في الفتوى والتبشير بالدعوةraquo; (2/303)، وهو لا يعني بهذا شيئا أكثر من استخدامه التيسير في الفتوى لخدمة laquo;المشروع السياسيraquo; له وللإخوان المسلمين، فتحت شعار laquo;التبشير بالدعوةraquo; يتمّ إضفاء هالةٍ من القداسة الدينية يريدون منها منع نقد المشروع وتفنيده.

القرضاوي من أكثر المنتشين بربيع الأصولية الإخواني، فهو قد بدأ يفقد توازنه تجاه الأحداث، فمرةً يختطف ثورةً في مصر (فبراير 2011) ومرةً يفتي باغتيال وقتل رئيس دولة (فبراير 2011) ومرةً يهاجم المؤسسات الدينية التي لم تمنحه ما يعتقده حقا له، كهجومه على الأزهر وشيخه أحمد الطيّب (فبراير 2012). والقرضاوي يفعل هذا كلّه في سياق أنّه مؤمنٌ بأنّ هذا الزمن هو زمن الأصوليين وعلى رأسهم الإخوان (سبتمبر 2011)، ويبدو من خطابه ومواقفه منذ عامٍ بالإضافة لما سبق، أنّه يسعى جهده ليصبح laquo;الولي الفقيه السنّيraquo; بكل ما تكتنزه هذه العبارة من دلالات السلطة وقوة النفوذ وجموح الطموح.

يبدو أنّ القرضاوي في خضمّ هذا الطموح قد نسي ما قاله سفيان الثوري من أنّ laquo;آخر ما يخرج من قلب الفقيه حبّ الرئاسةraquo;، ونسي كذلك ما قاله له الشيخ الصوفي بيومي العزوني في قريته قديما؛ فقد كان يناديه laquo;أبا يوسفraquo; فلمّا استنكر القرضاوي وقال له laquo;أنا يوسف ولست أبا يوسفraquo;، قال الشيخ بيّومي: laquo;ولكنّي أناديك بهذا وأقول لك ما قاله أبو حنيفة لصاحبه أبي يوسف: (لتأكلن الفالوذج على مائدة الملوك)raquo;.

أخيرا، يبدو أنّ القرضاوي في حلمه ليكون laquo;الولي الفقيه السنّيraquo; وبعد أن شبع من laquo;موائد الملوكraquo; أصبح طامحا ليأخذ laquo;كراسي الملوكraquo; كيف لا وهو حلمٌ قديمٌ لدى الإخوان بأنّهم laquo;يقيمون الدول ويسقطونهاraquo; (الإخوان المسلمون: أحداثٌ صنعت التاريخ 1/453).