غازي عبداللطيف جمجوم


لم تكد تمر أشهر قليلة على الاحتفال بانتصار الأشقاء في ليبيا على الطاغية القذافي بعد ثورة فبراير 2011م المجيدة التي راح ضحيتها قرب 100 ألف قتيل وجريح حتى فاجأنا مجلس إقليم برقة برئاسة أحمد الزبير السنوسي بالإعلان عن سعيه للحصول على حكم ذاتي للإقليم في إطار نظام فيدرالي. وقد أثار ذلك الإعلان موجة احتجاج شعبية واسعة في كثير من المدن الليبية مع رفض قاطع من زعماء الثورة الذين رأوا فيه دعوة إلى الانفصالية، رغم نفي مجلس برقة وجود أي نية للانفصال. يلعب هذا الإعلان على وتر تاريخي حساس حين كانت برقة واحدة من ثلاث ولايات عثمانية هي طرابلس وبرقة وفزان ثم دخلت في نظام فيدرالي اتحادي خلال الفترة من 1951م ــ 1963م ضمن المملكة الليبية المتحدة تحت حكم الملك إدريس السنوسي الذي قام لاحقا بحل هذا النظام. ويشكل سكان إقليم برقة (5 و 28%) من سكان ليبيا ويشمل الإقليم مدينة بنغازي كما يحتوي على حوالى 80% من الثروة النفطية في البلاد.
بغض النظر عن ما تخبئه الأشهر القادمة لليبيا فإن الدعوة إلى الحكم الذاتي في برقة في هذه المرحلة المبدئية من الثورة يجب أن تدق ناقوس الخطر عن التبعات المترتبة على ثورات الربيع العربي إذا لم يتبعها بسرعة وكفاءة بناء نظام ديموقراطي حقيقي يحمي الوحدة الوطنية ويقتنع ويرضى به كافة أفراد الشعب الليبي وطوائفه وأقاليمه. ولا شك أن بناء نظام رفيع المستوى في بلد سيطرت عليه الدكتاتورية لأكثر من أربعين عاما ليس بالأمر الهين، ولذا تبدو الدعوة إلى الفيدرالية في هذه الفترة بالذات استعجالا في غير مكانه، بل كأنها دعوة إلى الرجوع بليبيا إلى ما قبل ظهورها ككيان واحد. فالفيدرالية عادة تنشأ من اتحاد ولايات أو دول قائمة بذاتها، وهو ما لا ينطبق على ليبيا حاليا، حيث تتحد هذه الولايات أو الدول في كيان جديد تنصهر في بوتقته وتخضع لمؤسساته وخاصة المؤسسة الدستورية التي تسن القوانين المنظمة للعلاقة بين الحكومة الفيدرالية وحكومة أي من الولايات أو الدول المختلفة مع تحديد صلاحيات كل منها، والمؤسسة القضائية التي تستطيع أن تحل، في ظل الدستور، الخلافات التي تنشأ بين هاتين الحكومتين. وفي غياب هذه المؤسسات الفيدرالية فمن السهل الوقوع في فخ التفكك والانفصالية والصراعات الأهلية مثل ما حدث في بلاد البلقان في السابق أو في الصومال مؤخرا. حتى أعرق الدول الفيدرالية مثل الولايات المتحدة الأمريكية وسويسرا دخلت في حروب أهلية طاحنة في بداية تكوينها بسبب نزاعات بين الولايات المختلفة في غياب حكومة فيدرالية قوية ونظام قضائي يمكنه حل هذه النزاعات بالطرق القانونية. لقد عانت الأمة العربية في السنوات القليلة الفائتة من جراح كبيرة في السودان والعراق والصومال لم تهدأ ثائرتها بعد، وهي لا تحتاج إلى جرح جديد في ليبيا..
لذا نأمل أن ينتبه الإخوة الليبيون إلى الدوافع التي دفعت مجلس برقة في هذا الوقت بالذات للمطالبة بالفيدرالية، وهل تشمل هذه الدوافع، كما يقال، الخوف من تهميش منطقتهم أو من سيطرة فئة معينة على مقاليد الحكومة القادمة. نتمنى لليبيا ولكل دول الربيع العربي الوحدة والاستقرار والازدهار في ظل نظام يضمن المساواة والمشاركة من قبل الجميع.