مطاع صفدي

لعل الأسوأ مما ابتُليت به نهضةُ الاستقلال العربي، وفي معظم تحولاتها البنيوية الشاقة هو أن السياسة في مسارها الدولاني، سريعاً ما سقطت صريعةَ السلطة، وأن السلطة بدورها أضحت أقصر طريق لجني الثروات ذات الأرقام الفلكية الفاجرة. فقد تكون مرحلة الأيديولوجيات استنفدت التطلعات الأخلاقية عالية المستوى والمطامح. التي شُغل بها فكرُ الجيل الاستقلالي، خلال العقود الأولى من عهد بناء الدولة ذات التبعية للإسم العربي وحده.
ويمكن لهذه المرحلة أن توصف أفكارُها الأولى بالنزعة التبشيرية التي جعلت أهدافاً تاريخية عظمى من مثل عودة الوحدة، شرطاً لبزوغ مدنية عربية جديدة، جعلتها قابلةً للتحقيق بصورة آلية، ما أن تصوّرتها محتومةَ الإنجاز بعد طرد المستعمر الأوربي من أصقاع الوطن الأكبر جميعها. فما دام استطاع الاستقلال أن ينجز هذه المهمة، أي تنظيف الأرض من الأقدام الأجنبية، لماذا لا يكمل الجيل مسيرته التحررية بعد أن أتى استقلالاً بالمفرّق إلى عشرين شعباً، فيجعله من ثم يأتي استقلالاً بالجملة للأمة واحدةً موحدة..
ليس التبشير بالأفكار العظيمة مجرد تخييل عاطفي، أو تضليل ثقافي اجتماعي لا يعرف نفسه أنه كذلك. بل إن هذا النوع من الآمال الكلية قد يفرض الاعتقاد به، تسليماً شِبْه عفوي بحقائقه.
فليس ثمة تغيير عام لم يسبقه نشاط دعاوي أو إعلامي، وتصحبه تحشيداتٌ جماعية أو جماهيرية، تتقدّمها طلائعُ منظمة أو عفوية؛ لكن المشكلة في تبشيرية الفجر الاستقلالي أن مجتمعات المشرق الخارجة حديثاً من سجن الماضي، كانت على عجلة من أمرها، بحيث اكتفت بفورات العاطفة وراء تطلعات الحرية الشاملة، دون أن يتاح لطلائعها المثقفة فرصُ التبصّر الجدي بواقع الأحوال العامة الموروثة من العيش الهامشي على أطراف المدنية العالمية، لعشرة قرون. فكانت دعوات الالتحاق بركاب الأهداف الخلاصية المباشرة، تعوّض عن البحث العقلي الهادئ حول المنهجيات الكفيلة بتغيير الواقع المضاد؛ ولكن ليس بوسائله عينها، وإلا سيكون التغيير قد أعاد إنتاج عقباته تحت تسميات جديدة خادعة. فتغدو السياسة عندئذٍ أشبه بحركات الكر والفر بين شراذم سابحة على سطوح الكتل الجماهيرية المنسحبة من العمل العام يأساً وقرفاً، أو عجزاً عن استتباع قواها بصورة فاعلة حاسمة لفئة تظنّها أصلحَ من سواها، طامحةً للإمساك بمقاليد الحكم.
يمكن القول أن الاستقلال منح الجماهير ثقة واقعية بالذات افتقدتها جيلاً بعد جيل من سحيق الزمن. هذه الثقة أعطت للسياسة دوراً شمولياً يتخطى مسألة الحكم، وعلاقاته القانونية مع المجتمع، لتتطلع إلى بناء أمة جديدة لها جذورها في عمق الشخصية المفهومية، كما كان يتصورها الوعيُ الفجري آنذاك. عبارةُ 'النضال القومي' قبل التنميط الأدلجي، كانت تستوعب السياسة والأخلاق والثقافة في نسيج متكامل لا تفرقة بين حدوده ومفاهيمه. كان 'المناضل القومي' مكرّماً عند نفسه أولاً قبل أن يكون كذلك بالنسبة للغير. إذ أنه يشعر بالحرية والكرامة كقضايا شخصية، يؤهله هذا الشعور للالتزام الطوعي بواجباته، كرقيب أول دائم على ممارسته لها من دون إكراه ولا حتى إدعاء.. كان ذلك في مطلع الفجر الذهبي.
كان جيل الاستقلال يرى نفسه حاكماً بأمره، وليس مفصولاً أو محكوماً بغيره، وإن أصبح ذلك الغير مختلفاً، أو قطباً سلطوياً مضاداً. فلن يقع ذلك إلا مرحلياً، فـ 'النضال القومي' لا يعترف بعقبة إلا ليزيلها. تيار جارف هادر في كل الأودية. كان ذلك اعتقاداً راسخاً باسم النوايا الصادقة وحدها قبل أفعالها، أن النصر آت إلى هذه الأمة، ما أن يرفع العربي رأسه عالياً في كل مكان ـ على حد قول الرئيس عبد الناصر.. اليوم نصف هذه الحالة أنها كانت تبشيرية، أو رومانسية خيالية. غير أن ملايين 'الأمة' لم يعيشوها حالمين، بل واقعيين، وملء جوانحهم. لا يمكن لملايين البشر أن يخدعوا أنفسهم في وقت واحد، وإزاء ذات المشكلات التي يعانونها؛ لكن المؤسف أن هذه المعيشة شبْه الكيانية فشلت في صنع مرآة للعقل تضعها أمام عناصرها.
وهنا كان يُفتقد دور 'الطليعة' بوصفها الرأس المفكر الصاعد من لحم وعظم الجماهير. سريعاً ما ابْتُليَ الاجتماع النهضوي بأخطر أمراض الاجتماع الانحطاطي الذي يحاول الانفصال عنه. أول هذه الآفات المتحفية هو انحلالُ كل سلطة كانت تصف نفسها أنها تقدمية، إلى مجرد مراكز قوى صماء عمياء تتصارع فيما بينها على تقاسم أو تخاطف النفوذ، فالتسلط، فالنهب والإجرام.
لم تستطع دولة الاستقلال إحداث الفرق في شكل العلاقة الرأسية لمفهوم السلطة وممارستها. فقد اختبأت كراسي الحكم وراء شعارات المبادئ. كان الهدف هو أن ينسى الجمهورُ كلَّ سؤال موضوعي عن طبيعة الحكم، ويتلهَّى فقط بتداول أقوال الحكام وأبواقهم حول مشاريعهم وأهدافهم المطلقة. لم يكن ثمة اهتمام طليعي، سياسي أو ثقافي، بأهل الحكم كبشر أولاً، وليس كسلاطين فحسب. لكن 'البشري' هو الفاعل الأصلي في (الكائن) السلطاني. فلن يكون في منجاة عن التقييم الأخلاقي لمسالكه الشخصية، وليس لقراراته السياسية أو الإدارية فحسب، تلك التي لن تكون كذلك موضعَ محاسبةٍ أو مناقشة عامة، الممنوعة سلفاً.
إن مبدأ الرقابة العامة على أفعال الحكام لا تكتمل جدواه القانونية أو الدستورية إلا إذا ما تمتع المسؤول السلطوي برصيد من المؤهلات غير العادية، من المعرفة والمقدرة القيادية، والسلوك الشخصي الشفاف. هذه الخصائص تجهلها، بل تتجاهلها السلطات الشمولية. وعندما تمعن هذه الأنظمة وأمثالها في الاستناد إلى قوتها كأمر واقع فحسب، تصبح مطالبةُ رجال الاستبداد باحترام الوازع الأخلاقي، أمراً يدعو للسخرية. فالمستبد أعفى نفسه مقدماً من كل مسؤولية أمام أية هيئة جماعية.
وبالتالي أصبح يمارس حريته المطلقة في إشباع غرائزه الحيوانية الأصلية الكامنة ما تحت بشريته الزائفة. لكن الاستبداد العربي لم يولد هكذا بأسبابه الذاتية فقط، لم يَفُزْ بالسلوك المنفلت من كل قيمة أخلاقية، أو وطنية صادقة إلا بعد فقدان مجتمعات الهزائم العسكرية أمام عدوها القومي، شعورَ الاعتزاز العفوي بكرامة الاستحقاق التاريخي لأعباء مشروعها النهضوي كما تَمَثَّلَه مخيالُها الجمعي، استناداً إلى برهان العاطفة الذي سرعان ما أسقطه برهانُ الواقع المستمر، خلال السنوات القليلة الحافلة بجدلية الوحدة والانفصال تحت طائلة إنجاز التحرر من الاستعمار القديم، ومقاومة وريثته الغازية: الصهيونية العالمية المتأمركة.
كانت ولادة هذه الحقبة مع انطلاق (القومية العربية)، أو بالأحرى القومية الناصرية، بدءاً من إعلان زعيمها لقرار تأميم قناة السويس. كان ذلك الحدث بمثابة قطيعة التاريخ العالمي ـ وليس العربي وحده ـ مع عصر الإمبراطوريات الاستعمارية الأوروبية وزعيمتها الكبرى بريطانيا، لكنه كان كذلك إيذاناً بالنقلة النوعية نحو إمبريالية الاستعمار الآخر الذي سيُصطلح عليه بالاستعمار الجديد. وسيكون وطن العرب وثرواته النفطية ساحتَه المركزية منذ أواسط القرن الماضي وحتى اليوم.
النهضةُ تحت هيمنة هذا الاستعمار أصيبت بأمراض تشظي الشخصية، وانقساماتها في كل شأن بنيوي عام تحققه شعوبها في ميادين التحرر السياسي أو الاقتصادي أو الثقافي، فالإحباط العسكري أنهى حقبة الزعامة الكارزمية التي كادت توحد (الأمة) في كلٍ متجانس ما بين قيادة التحرر وطلائعه من جهة، والجماهير الأوسع من القاعدة القومية الأشمل. لقد حيل بين تيار الاستقلال الوطني (القطري) واندفاعه العفوي نحو الاستقلال القومي.
عادت التجزئة العضوية لتفرض قانونها الدولي والإقليمي على طبيعة التطور في كل قطر على حدة. محدوديةُ القطر أنعشت انحطاطه القديم، سلبت حركاته المدنية الطليعية القدرةَ على المبادرة بقوة المبدأ والفكرة وحدهما.
فحلَّت محلَّها عاجلاً قوى الأمر الواقع الجاهزة التي جسدها نموذج الانقلاب العسكري المتكرر، وما يتبعه من انبعاثات عبثية للشظايا المتخفية، مزيد من طائفيات وعرقيات وجهويات. فأية سياسة قائدة يمكن أن تفرزها مجتمعات الخلائط المتنافرة هذه. بعد أن انخفض مستوى كل مبدأ جامع إلى مستوى كل مصلحة فئوية مُفرِّقة. وهكذا أمست سياسة العرب خلال أكثر من أربعة عقود، مجرد تعبيرات عن مصالح فرديات أو فئويات مارست السلطة كتسلط أقلوي على كل ما هو أكثري، من الناس وحرياتها وثرواتها. محدوديةُ القطر تقتطع من خضّم الأمة، بركاً من مستنقعات راكدة لا تصلح إلا لمعيشة الطحالب والضفادع. ومن يسيطر على المستنقع ليس سوى الأشنع من مخلوقاته. يصير الاستبداد حالَ تكثيفٍ ذُرويّ لمختلف أعراض الركود الاجتماعي وأسوأ أخلاقية ازدواجية لأفراده ما بين ظاهر الأفعال والأقوال وبواطنها.
الربيع العربي يكشف أو يرفع الجدار الرابع عن قصور الطواغيت وحيواتهم الشخصية. وقد يُذهَلُ الناسُ لما يقرؤونه ويبصرونه. فليست هي فضائح أو مجرد أسرار لأفراد كانت لهم مسالكهم الخاصة بهم وحدهم.
من المفترض في الثقافة العامة أن الحاكم هو قدوة لشعبه، لكن (بعض) الحاكم العربي منح نفسه حرية التصرف ما فوق القانون، حتى انتهى به الأمر إلى أن يكون مداناً بجرائم كل قانون أرضي وسماوي. ليست العلة أن المجتمع بات فاقداً لأي منبر رقابة، حتى يستفحل أمر الاستبداد ليصير هو وسلطة الفساد وجهاً واحداً لمحدودية الدولة القطرية البائسة، بل لعل مركّب الاستبداد/الفساد هذا ستظل له وظيفة قائمة مهما تغيرت وجوه وأسماء الصاعدين إلى كراسي الحكم، بعد النازلين منها. هل تتوقع بعض تجارب الثورة الربيعية الناجحة(؟) أن هذا المركّب هو الثابت وبعض الثوار هم المتغيرون، بالوجوه والألقاب فقط.
متى يمكن للربيع العربي ألا يكتفي بإلقاء القمم الفاسدة فوق مستنقعاتها الموبوءة، بل أن يجرف حدودَ البرَك الراكدة، قاذفاً بها إلى خضم الأمواج العالية، حيثما البحر هو المنتج والمتحكّم بأمواجه، وليس لأي منها ثمة من مصير إلا مصير البحر تولد منه وتنضاف إليه.