جابر عصفور

ظني أن السلفيين وأقرانهم من جماعات الإسلام السياسي لا يؤمنون بالدولة المدنية أو المواطنةrlm;,rlm; فهم يرفضون الدولة المدنية رفضهم للمواطنةrlm;.rlm;


وحتي لو تظاهروا بقبول مبدأ المواطنة فإنهم يفعلون ذلك علي سبيل المناورة أو التقية; فالدولة عندهم دولة الإسلام التي هي دولة الخلافة في آخر الأمر, وإذا كان فيها من أصحاب الديانات السماوية السابقة علي الإسلام فحكمهم هو حكم أهل الذمة في أفضل حالات الاعتدال, أو حكم الكفار في غير حالات الاعتدال; فكل من ليس بمسلم كافر, وهو عدو للإسلام والمسلمين, ودمه وماله حلال للمسلمين, خصوصا عندما ينقسم العالم انقساما حديا بين دار حرب و دار كفر. وقد يضاف إلي الأولي دار كفر غير حرب إذا كان بينها والمسلمين عهد وميثاق. هذه النظرة المتوارثة إلي اليوم لدي العديد من طوائف الإسلام السياسي هي الأصل في رفض الدولة المدنية, لأن الأصل هو دولة الخلافة الدينية.
ويعني ذلك رفض فكر الدولة المدنية أو الدولة الحديثة لأنها- فيما يتوهم العقل السلفي- نقيضة دولة الخلافة التي هي الأصل الإسلامي الذي لا يقبل الاجتهاد فيه; فأبواب الاجتهاد مغلقة في الفكر السلفي, خصوصا بعد أن أصبح النقل بكل مطلقاته وقرائن التقليد فيه هو الأصل المباح, بالقياس إلي إلغاء العقل والهجوم التكفيري علي طوائف العقلانيين الإسلاميين قدامي ومحدثين. ولن يترتب علي ذلك رفض الدولة بمعناها الحديث فحسب, وإنما رفض مبدأ المواطنة الذي هو الأصل فيها. ويلزم عن ذلك إشاعة مبدأ التمييز علي نحو مطلق.
وتغدو أمة الإسلام بذلك أمة تراتبية, أعلاها أهل السلف( والنقل والتقليد والاتباع) وأدناها وأهونها أهل الاجتهاد( والعقل الذي يقيس علي شروط الزمن الحاضر) ومن يري شرع الله حيث مصلحة عموم المسلمين دون تمييز. وما ينطبق علي المسلمين في تياراتهم وطوائفهم المتراتبة, ينطبق عليهم جميعا بالقياس إلي غير المسلمين, وأولهم المسيحيون بالطبع. ولذلك ينقل ابن عثيمين, رحمه الله, وهو من كبار علماء السلفية في المملكة العربية السعودية, ما ينسب إلي الإمام أحمد بن حنبل قوله: إذا رأيت النصراني أغمض عيني كراهة أن أري بعيني عدو الله. ويقول الشيخ ابن عثيمين في التعليق علي هذا الكلام: وأصبح كثير من الناس الآن لا يفرق بين مسلم وكافر, ولا يدري أن غير المسلم عدو لله عز وجل بل هو عدو له أيضا. وأنا أنقل هذا الكلام من كتاب الباحث السعودي راشد السمهوري نقد الخطاب السلفي- ابن تيمية نموذجا( ص36). والحق أننيمع احترامي لابن عثيمين الذي هو من أهم أتباع ابن تيمية- قطب السلفية الأعظم- لا أصدق أن إماما ورعا كابن حنبل, قريب عهد من زمن النبوة( عاش ما بين126 إلي241 هـ) يمكن أن يقول هذا الكلام, وهو الذي لا شك يعلم معني زواج النبي صلي الله عليه وسلم بمارية القبطية, ويعرف قول الله تعالي ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصاري, ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون( المائدة81) ويعرف أسباب نزول الآيات التي أشرت إليها, والتسامح الديني الذي يؤكده الإسلام إزاء غير المسلمين. ومؤكد أن ثروت الخرباوي علي حق في سخريته من الذين وضعوا علي لسان ابن حنبل ما يصعب نسبته إليه عقلا, وذلك في روايته زمكان.
وبعيدا عما إذا كان الإمام ابن حنبل قد قال أو لم يقل هذا الكلام الذي لا يقبله عقلي( المسلم) منسوبا إليه, فقد رتب شيوخ السلفية علي ذلك أحكاما لا يزال البعض يمارسها اتباعا وتقليدا, منها أن غير المسلم تجب عداوته وإن أحسن للمسلم, ومنها أنه لا يجوز أن يبدأ المسلم بتحية غير المسلم كالمسيحي وغيره, ومنها ألا يبدأ المسلم بالمصافحة حتي يمد المسيحي يده, ومنها أنه لا يجوز تعزية أهل الكتاب, ولا يجوز شهود جنائزهم وتشييعهم, ومنها تقبيح أن تقام حفلة توديعية لزميل غير مسلم في العمل لأن هذا باب من إكرام الكافر, ومنها: إذا لقيتم غير المسلمين في طريق, فاضطروهم إلي أضيقه. ومن المنطقي أن يترتب علي ذلك وجوب إهانة غير المسلم وكراهية مقدساته, ومن هذه المقدسات الأعياد الخاصة بالمسيحيين التي يحرم علي المسلم المشاركة فيها أو التهنئة بها. ولا غرابة أن يقال- في هذا السياق- إن صلاح الدين الأيوبي لم ينتصر علي الصليبيين إلا لأنه أبعد النصاري عن أي ولاية أو منصب. ولذلك يقول راشد السمهوري في المرجع الذي سبقت الإشارة إليه: إن إهانة أهل الذمة وإلزامهم الصغار الذي يفهمه شيخ الإسلام( ابن تيمية) من شرع الله وإذلالهم هو من شروط التعايش التي يراها بين المسلمين وأهل الذمة. وهو مما يدخل في مسألة القصد إلي إهانة الكافر وإهانة مقدساته وسبه ولعنه هو ودينه. وهذا وهم أهل ذمة من أهل الكتاب؟ فكيف بمن سواهم.( ص46)
قد نقول إن المناخ الذي عاش فيه ابن تيمية(661-726 هـ) وما شهد فيه من حروب صليبية, وتواصل حملات المغول والتتار, أسهم في تشكيل منظوره الديني الذي جعله فقيها سلفيا متزمتا جامدا, خائفا علي الإسلام من أعدائه الأشداء. ولكن زمن ابن تيمية قد انتهي, وعصره قد ولي وذهب إلي غير رجعة, وتقدمت البشرية علي كل المستويات, فاتفق أصحاب الديانات السماوية مع أصحاب الديانات غير السماوية علي أن يتعايشوا في ظل المواثيق العالمية لحماية حقوق الإنسان أيا كان اعتقاده, ودأب العقلاء من أبناء الديانات السماوية علي مواصلة حوار الأديان والتقريب فيما بينها. ورغم كل محاولات الاستعمار في مصر لاستغلال الدين في التفريق بين أبنائها, فقد نجحت ثورة1919 في التقريب بين عنصري الأمة تحت شعاري الدين لله والوطن للجميع و عاش الهلال مع الصليب. ولكن للأسف فتح استخدام الدين في السياسة, علي يدي السادات, أبواب الجحيم, وانتقل إلينا إسلام الصحراء محملا بعواصف السلفية الوهابية فوجد له محلا, غلب فيه علي إسلام النهر الوسطي المعتدل, وساعدت علي ذلك دولة تسلطية أدت إلي أزمة اقتصادية طاحنة, فتزايدت الأمية بين الفقراء وجاوزت الأربعين في المائة. وليس هناك أسهل من غزو العقول الأمية الفارغة من ثقافة مدنية مقاومة. وكانت النتيجة اضطهاد السلفية للمسيحيين والتحقير من شأنهم, وحرق كنائسهم, ومحاولة فرض الجزية علي بعضهم في الصعيد, في موازاة تعميق الهوة بين المسلمين والمسيحيين. ولولا مبادئ ثورة1919 التي لا تزال باقية في العقول المستنيرة, ولولا عقلاء المسلمين والمسيحيين لتحولت مصر إلي ساحة جهنمية لحرب أهلية لا تبقي ولا تذر. ولذلك كله تبدو الدولة المدنية الحديثة أقصر طريق للخلاص من كوارث الماضي وآثامه. ويبدو النص علي مدنية الدولة في الدستور حصن أمان لملايين المصريين المسلمين قبل المسيحيين.