محمد السماك


رسم التفاهم الأميركي- الإيراني لوحة جديدة من الكلمات المتقاطعة في الشرق الأوسط. عمودياً كانت إسرائيل تريد تسوية للملف النووي الإيراني على غرار التسوية التي جرت في ليبيا القذافي قبل إسقاطه. فقد بادر القذافي إلى تسليم كل ما كانت تملكه ليبيا من اليورانيوم المخصب، ومن ماء ثقيل، إلى الإدارة الأميركية التي قامت بعد ذلك بتفكيك المفاعل النووي الصغير ونقله إلى الولايات المتحدة. وبذلك اشترى القذافي استمراره في السلطة إلى أن انفجر الشعب الليبي في وجهه وأسقطه بالقوة.

هذه التسوية لم تحدث مع طهران. الذي حدث هو أن إيران بموجب اتفاق فيينا ستحتفظ بما تملكه من يورانيوم مخصب (أو مشبع) laquo;20 في المئةraquo; ولكنها بالمقابل تتعهد بأمرين: الأول هو التوقف عن إنتاج المزيد من اليورانيوم المخصب ومن الماء الثقيل، دون إتلاف ما تملكه أو تسليمه إلى الولايات المتحدة. وإضافة إلى ذلك التزمت إيران بالتعاون أكثر مع بعثات المراقبة الدولية لمنشآتها النووية.

وهذا يعني أن إيران التي تملك المعرفة لإنتاج سلاح نووي لن تبادر إلى إنتاجه في الوقت الحاضر. وهو ما تعهدت به علناً بموجب عقد التفاهم الجديد مع الولايات المتحدة.

وأفقياً تشير لوحة الكلمات المتقاطعة الجديدة إلى أنه بعد 34 عاماً من المقاطعة الأميركية لإيران، فإن صفحة جديدة من التعاون المتبادل قد فتحت. أو على الأقل تقرر فتحها. فالولايات المتحدة لم تعد laquo;الشيطان الأكبرraquo; بالنسبة لإيران. وإيران لم تعد تشكل خطراً على السلام الإقليمي والدولي بالنسبة للولايات المتحدة. بل على العكس فإن إدارة أوباما تنظر إلى إيران على أنها قوة مساعدة لتسوية في أفغانستان بعد انسحاب القوات الأميركية منها في العام المقبل 2014. وقد تسفر التسوية المنتظرة عن النتائج ذاتها التي أسفرت عنها تسوية الانسحاب الأميركي من العراق. إذ تحول العراق إلى شوكة مذهبية في خاصرة محيطه العربي. ويمكن أن تتحول أفغانستان إلى شوكة أخرى في خاصرة باكستان التي تتمرد على الهيمنة الأميركية.

أما نقطة التقاء التحول العمودي بالتحول الأفقي في شبكة الكلمات المتقاطعة الجديدة فهي أزمة الشرق الأوسط، وأساسها القضية الفلسطينية.

إن استرضاء إيران ومبادلتها الهيمنة السياسية شرقاً وغرباً مقابل تجميد التخلي عن السلاح النووي يثير قلق الدول العربية. ومن السذاجة الاعتقاد بأن أوباما -وإدارته- سيكون قلقاً من رد الفعل العربي المترتب على هذا القلق. بل ربما يكون من المبالغة في التفاؤل الاعتقاد بأن الرئيس الأميركي سيبادر إلى استرضاء هذه الدول العربية من خلال مبادرة جديدة لحل القضية الفلسطينية. ذلك أن أي مبادرة من هذا النوع تضمن ولو الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية، ستلقى معارضة إسرائيلية. وأوباما الذي يفتش عن وسيلة لاسترضاء إسرائيل بعد الاتفاق مع إيران، لا يتحمل إغضابها مرة جديدة. فإسرائيل تعتبر الاتفاق مع إيران صفعة على خدها الأيمن. ومن الطبيعي أن ترى في أي مبادرة أميركية منصفة للفلسطينيين واسترضائية للعرب، صفعة على خدها الأيسر. ومن هنا فإن الخطر كل الخطر هو أن يطرح أوباما مبادرة أميركية جديدة لحل القضية الفلسطينية على قاعدة استرضاء إسرائيل. فتكون النتيجة احتواء إيران بالمحافظة على قدرتها النووية دون العسكرية، واحتواء إسرائيل بالمحافظة على سياستها التوسعية في الضفة الغربية والقدس. وفي هذه الحال ماذا يكون رد الفعل العربي؟

لقد رفعت إسرائيل صوتها عالياً ضد الاتفاق الأميركي مع إيران، ووصفته بأنه خطأ تاريخي. وتتجه تل أبيب إلى المزيد من التصعيد ضد إدارة أوباما داخل الكونجرس الأميركي، ليس لإسقاط الاتفاق مع إيران، ولكن لتسديد ثمن هذا الاتفاق إلى إسرائيل. والثمن المطلوب هو إطلاق يدها في الأراضي الفلسطينية المحتلة من خلال تهويد القدس والاعتراف بها عاصمة موحدة لإسرائيل، وبناء المستوطنات اليهودية في الأرض الفلسطينية المحتلة.

ولا يستطيع أوباما الوقوف في وجه التصعيد الإسرائيلي الذي يستهدفه، ولاسيما أن المشاكل الداخلية التي تعاني منها إدارته تفرض عليه استرضاء الكونجرس من الحزبين الجمهوري (المعارض له) والديمقراطي (الذي ينتمي إليه). ويبقى العالم العربي الذي يشكل بحكم أوضاعه الراهنة المترنحة هدفاً في متناول اليد لتحميله الثمن، مرة لإيران.. ومرة ثانية لإسرائيل.

وتكمن عقدة أوباما مع إسرائيل في النتائج المترتبة عن الموقف الذي سيتخذه الكونجرس. فإذا أقر الكونجرس التسوية الأميركية الإيرانية على رغم اعتراض إسرائيل والحملة التي يشنها اللوبي الصهيوني (منظمة آيباك) على هذه التسوية، فإن معنى ذلك انكسار شوكة اللوبي الصهيوني بحيث إنه سيكون عاجزاً في المستقبل عن أداء الأدوار المهمة التي كان يقوم بها. أما إذا رفض الكونجرس التسوية، ونجحت إسرائيل في ليِّ ذراع أوباما، فإن النتيجة ستكون فرض مزيد من العقوبات الأميركية والدولية على إيران.. ومن ثم استدراج الولايات المتحدة إلى حرب على إيران كما نجحت في أيام بوش الابن في استدراجها إلى حرب على العراق. وسيترتب على ذلك تحميل إسرائيل مسؤولية حرب أميركية جديدة لا تريدها الأكثرية الساحقة من الرأي العام الأميركي.

والسؤال هو: أين تقف الدول العربية من كل هذه الاحتمالات؟

كانت الدول العربية تمني النفس بأن يمارس أوباما ضغوطاً سياسية واقتصادية وحتى عسكرية على النظام في سوريا، ولكن خلافاً لذلك فإن الولايات المتحدة تتوجه الآن إلى إيران -حليفة النظام السوري سياسياً وعسكرياً- لوقف الحرب الداخلية من دون شرط إسقاط النظام.

وكانت الدول العربية تمني النفس أيضاً بأن يمارس أوباما ضغطاً معنوياً على المالكي خلال زيارته الأخيرة لواشنطن لإخراج العراق من تحت الهيمنة الإيرانية، وإعادة ترميم الوحدة الوطنية العراقية بمكوناتها المذهبية والعرقية المتعددة. ولكن النتيجة جاءت عكس ذلك تماماً على النحو الذي عكسته سياسة المالكي الذي يتطلع إلى دورة رئاسية مطلقة ثالثة!

وهكذا في الوقت الذي كانت فيه الدول العربية تمني النفس بأن تؤدي معالجة الملف النووي الإيراني إلى ليّ ذراع طموحات الهيمنة الإيرانية في المنطقة، إذا بالاتفاق يطلق يدها شرقاً وغرباً.

فالولايات المتحدة منهمكة الآن ليس بالبحث عن وسيلة لاسترضاء العالم العربي، بل لاسترضاء إسرائيل أولاً وفي الدرجة الأولى. ذلك أن استرضاء إسرائيل يشكل أساساً من أسس السياسة الداخلية الأميركية. فإسرائيل التي تبدي قلقاً من المعرفة الإيرانية بصناعة سلاح نووي، وامتلاكها المواد المصنعة لهذا السلاح، تحتاج إلى ترضية.. قد يدفع ثمنها العرب وبخاصة الفلسطينيون.

إنها لعبة الأمم، حيث تكون الغلبة لحق القوة على قوة الحق.. وحيث يحمل الضعيف أو المستضعف على تسديد ثمن التسويات السياسية.