فـــؤاد مطـــر

يحزن المرء عندما يرى أن الجنوح نحو الانتقام ما زال مسكونًا في نفوس بعض الذين تشاء الظروف أن يتسلموا مقاليد الأمور في بلادهم، ويصل الانتقام إلى حد أن يصادر هؤلاء حقًا أراده الخالق للمخلوق، مثل أن يوارى الثرى في الوطن بعد أن يسترد الخالق الوديعة، الذي مهما تنوعت الظروف وتكاثرت موجات الممسكين بالسلطة فإن هذا الحق يبقى مصانًا لأنه إرادة رب العالمين.


مناسبة هذا الكلام أن عهودًا من السلطة في كل من سوريا قبل عهد «البعث» وخلاله، وفي العراق في أزمانه الثورية اليسارية ثم البعثية، وصولاً إلى الزمن الحالي تأصل فيها الجنوح نحو الانتقام نتيجة اختلاط الثأر السوري بالثأر العراقي بالثأر الإيراني، والتقى الثلاثة على ممارسة الانتقام في السر أو في العلن حسب المقتضيات، من العهد الصدَّامي.


آخر جولات الانتقام ولن يكون أخيرها، لأن مسلسل الانتقام طويل، هو الذي جرى لأحد أبرز رموز الجيل العربي المخضرم من الدبلوماسية العربية، وبالذات في أكثر المراحل التي واجهت الأمة تحديات بفعل الجراح الناشئة عن هزيمة 5 يونيو (حزيران) 1967، والتسوية الساداتية المتعجلة بعد انتصار أكتوبر (تشرين الأول) 1973 التي بلسمت الجراح، لكنها أحدثت تشققات في الصف، والغزوة الصدَّامية للكويت يوم الخميس 2 أغسطس (آب) 1990 التي أسَّست مدفوعة بتداعيات الحرب الصدَّامية - الخمينية لما تعيشه الأمة منذ بدء الانتفاضة في سوريا ثم المغامرة الحوثية في اليمن.. ناهيك بالأحوال اللبنانية التي تزداد عتمة.


ومع أن طارق عزيز الذي هو زميل إعلامي قبل أن يسلك الطريق إلى السلطة في العراق، ويصبح نائبًا لرئيس الوزراء وزيرًا للخارجية، مسيحي مستقيم الرأي والحس العروبي، ومن الطائفة الكلدانية ذات السمعة المحمودة في العراق، إلا أن انتقام النظام الإيراني والموالين له مُورس على أساس أنه كان أحد رموز صيغة تعايش الطوائف مجاورًا على سبيل المثال في الصف الأمامي من القيادة الشيعي الكربلائي الدكتور سعدون حمادي والكردي السُني طه محيي الدين معروف والعربي السُني عزت الدوري وطه ياسين رمضان.


وقبل أن ينال منه عراق بريمر ثم عراق المالكي، استهدفه الانتقام الإيراني وهو في مناسبة داخل الجامعة المستنصرية، وكاد يقضي في تفجير. وهذه الحادثة كانت سببًا لأعرف طارق عزيز خارج المؤتمرات وبالذات القمم العربية التي نقوم كإعلاميين بتغطية أعمالها، ويوفر لنا ذلك فرصة معرفة المسؤولين المشاركين وبالذات وزراء الخارجية عن كثب.


في منزل طارق عزيز، الذي كان يستكمل فيه العلاج من شظايا التفجير، اكتشفتُ في الرجل عمق ارتباطه بالعائلة، ومدى سعادته بالابنة زينب كما بالابن زياد. كما اكتشفتُ أنه في موضوع الصراع مع النظام الثوري الجديد في إيران، وكانت الحرب لم تبدأ بعد، كان مقتنعًا بأن الأمة على موعد مع أقدار صعبة وأن العراق سائر إلى مواجهة لا خيار له فيها، لأن من يقرأ المفردات الخمينية بتأن سيستنتج أن أميركا والغرب عمومًا لن يتحملا العراق القوي، وأن زعزعة هذا العراق تكون بتأجيج الصراع بينه وبين إيران.


كانت تلك مجرد وجهة نظر مقرونة بتحليلات تكررت في أكثر من لقاء كان أبو زينب، كما يحب أن نناديه أحيانا وأبو زياد كما درجت المناداة له، بعيد النظر فيما سمعتُه منه. وعزَّز رؤيته بالتحليل الاجتماعي للشخصية العراقية كما رآها الدكتور علي الوردي الذي زادني معرفة بأحوال العراق ومجتمعه العربي - الكردي - العشائري - الماركسي - الناصري - البعثي - الشيعي - السُني - الكلداني - الصابئي.


في «سجن بريمر» عُومل طارق عزيز، وكما لو أن هذا الحاكم الغازي للعراق مسكون هو الآخر برغبة الانتقام من العقل العربي المستنير، الذي هو من نسيج ساطع الحصري والدكتور قسطنطين زريق والأستاذ ميشال عفلق والدكتور جورج حبش. وفي«سجن بريمر» أو «غوانتانامو - فرع العراق» تمنى راحة الموت إذ عندما يتراجع النظر وتتزايد العلل وتتكاثر الاستهانات يصبح الموت أمنية.


في يوم الجمعة (5 يونيو/ حزيران 2015) فارق الزميل طارق عزيز الحياة. هو يوم مبارك يستحقه أبو زينب الكلداني الموصلي العروبي. كما أنه يوم حزن على نفسي كما على نفوس ملايين في الأمة كونه يوم الذكرى الثامنة والأربعين لتلك الهزيمة التي أصابت الأمة في الصميم.


ما هو مُدعاة للاستغراب أن زملاء المسيرة العربية الدبلوماسية المتواصلة لم يسجلوا كلمة توديع للرجل، وأن أصدقاء هذا السياسي المتميز المستنير لم يتسن لهم لا زيارته في سجنه ولا السير في جنازته، وعوَّضهم هذا الواجب أن صديقهم الدكتور عبد المجيد الرافعي رفيق نضال طارق عزيز جمعهم في مجلس عزاء في بيروت، استحضروا فيه مناقشات وحوارات مع طارق عزيز في بغداد وباريس وجنيف ونيويورك وبالذات في زمن التفاوض العراقي - الإيراني العقيم الذي تولاه طارق عزيز عن العراق والدكتور علي ولايتي عن إيران. وما هو مُدعاة للحزن أن يصل هاجس الانتقام لدى أهل السلطة في العراق إلى حد أن يُحرم منعًا الإنسان وقد بات في ذمة الله، من أن يوارى الثرى في وطنه. وهذا الذي لقيه طارق عزيز الجثمان المكمِّل لما لقيه طارق عزيز السجين، يجعل الأجيال العربية تخجل من مراحل حدثت في تاريخ بعض دول الأمة. وبقدْر ما إن دفْن جثمان طارق عزيز أبو زينب وأبو زياد، وزميل جيليْن من الإعلاميين أنا أحدهم، في مدينة مأدبا في الأردن هو فِعْل كريم وحضاري للأردن، فإنه نقيض ذلك لمن ليس فقط لم يجيزوا حقًا مقدسا بأن يُدفن الإنسان في وطنه، وإنما اشترطوا ترحيل الجثمان تسللاً إلى بلد مجاور يؤمن حاكمه بالتعقل في تصريف شؤون البلاد والعباد.


ويبقى بالنسبة إلى أولئك الذين ظلموا طارق عزيز بحرمانه من أن يُدفن في وطنه، وقبل ذلك بالنسبة إلى الرئيس (الراحل) حافظ الأسد الذي ظلم ميشال عفلق بحرمانه هو الآخر من وطنه سوريا، ولذا جرى دفْنه في حرم مبنى القيادة القومية لحزبـ«البعث» في بغداد.. يبقى التذكير بقول أبو العلاء المعري شِعرًا: لا تظلموا الموتى وإن طال المدى
إني أخاف عليكمُ أن تلتقوا
عسى يتعظ الآتون في ضوء سوء تصرُّف ارتكبه الحاضرون.. الماضون.