عبد المنعم سعيد

في كتابه الأشهر «عن الحرب» قال خبير الاستراتيجية الألماني كارل فون كلاوزفيتز (1780 - 1831) مقولته التي صارت مصدرا للحكمة إن الحرب هي امتداد للسياسة بوسائل أخرى. الأصل في الأمر إذن هو: السياسة التي تعني المصالح في حالتها الديناميكية بين التناقض والصدام والتوافق والوئام. السلاح هنا مجرد وسيلة أخرى، وبالتأكيد فإن الحرب أكثر عنفًا، ولكنها في النهاية مجرد وسيلة مثل الدبلوماسية والإعلام وأشكال أخرى من الخداع والمناورة لتحقيق مآرب أخرى أكثر عمقًا وأهمية. فما الذي يحدث في الشرق الأوسط الآن، وهل عادت السياسة مرة أخرى لكي تصل بما فعلته الحرب إلى نتائج ملموسة على الأرض؛ أم أن المسألة برمتها هي استعدادات جديدة لحروب أكبر وأكثر دموية؟ الموضوع في الشرق الأوسط لا يمكن أن يكون لعبة للكراسي الموسيقية تبحث فيه أطراف كثيرة عن مقعد تستقر فيه قبل أن تتحرك مرة أخرى بحثًا عن المقعد التالي. هناك شيء ما يشي بأن نقطة فاصلة قد حدثت بحيث اندفعت السياسة بسرعة كبيرة، وبأكثر مما تصور كثير من المحللين، فهل كان ذلك هو الاتفاق النووي الإيراني مع مجموعة 5+1؛ أو أنها الانتصار الذي حققه التحالف العربي بقيادة السعودية في اليمن بحيث انتهى عهد الامتداد الحوثي - الإيراني، وبدأت مرحلة امتداد الحكومة الشرعية؛ أو أنها حالة الجمود التي جرت في حرب التحالف الدولي والإقليمي بقيادة الولايات المتحدة ضد تنظيم داعش والتي بعد عام من الحرب الجوية والبرية فإن دولة «الخلافة» المزعومة لا تزال قائمة، بل إن ما تفقده سرعان ما يعود في استحواذ جديد؛ أو أن دخول تركيا كلاعب أساسي في المعركة قد خلق توازنات جديدة حتى ولو بدا أن أنقرة ليست مهتمة بالحرب على «داعش» بقدر ما يهمها مواجهة حزب العمال الكردستاني؟
هذه أسئلة كثيرة، وهي جزء من الطبيعة البشرية عندما تتعقد الأمور بأكثر مما هي معقدة طوال السنوات الخمس الماضية. المشهد الآن هو أن الحرب دائرة كما كانت دائرة منذ بدأت في مسارح كثيرة في المنطقة، ولكن ما يلفت النظر أن السياسة التي هي امتداد للحرب بوسائل أخرى اعتلت المسرح بينما دوي المدافع وأزيز الطائرات لا يزال مدويا.

هو بالتأكيد ليس نوعًا من الموسيقى التصويرية، ولكنه نوع من التداخل ما بين الحرب والسياسة لم يحدث في الإقليم كله منذ وقت طويل. هناك الحركة الأميركية الدائمة ما بين إعادة الحوار مع مصر، واستقدام تركيا إلى الحرب؛ وفي المقابل فإن التحرك السعودي نشط ليفتح جبهات سياسية كثيرة مع موسكو، وعمان تلعب دورًا ما لا يعرف أحد ما هو حجمه ولا مقداره، ولكن الدور الذي انكشف في بداية الحوار الأميركي - الإيراني يجعل ما يجري في مسقط محل اهتمام، وإيران تطرح مشروعًا للخروج من الأزمة السورية، وحتى النظام السوري يحاول فتح قنوات سواء عن طريق وزير الخارجية أو مدير المخابرات. وواضح من الحركة السياسية أن الأولوية المطروحة هي للأزمة السورية باعتبارها مفتاح الاستقرار في منطقة الهلال الخصيب كلها؛ ولهزيمة «داعش» وأمثالها باعتبارهم التحدي الرئيسي لأي نظام إقليمي.


تحديد الأولويات في العموم ليس بالأمر الهين، خاصة في حالة ازدحام قضايا كثيرة اختلطت كلها بالدم والنار، وبعضها يضع المنطقة على حافة حروب تاريخية موغلة في القدم عند أصولها، ومنذرة بالأعاصير إذا كانت هي المستقبل. وسواء كان الخوف هو من الانقسامات المذهبية بين السنة والشيعة؛ أو أنه كان محاولات انفصالية لجماعات شتى؛ فإن الحكمة التي استقرت ربما تكون بالتعامل مع أولويات تلتقي عندها مصالح كل الأطراف الرئيسية على الأقل، وفي الوقت الراهن على أقل تقدير.

وعلى أي الأحوال فإن الحركة السياسية المحمومة حتى الآن لم تجعل المدافع تصمت، واختبارات السلاح لا تزال قائمة. مثل ذلك يشكل تقدما بدرجة ما ولكنه لا ينهي عقبات كبيرة أهمها ماذا يمكن عمله مع نظام بشار الأسد ورفاقه؛ وماذا يمكن عمله للقضاء على «داعش» التي تعدت الحرب معها عامًا وأكثر، وما زالت على وحشيتها تذبح الرجال وتسبي النساء وتغتصب الأطفال وتفجر المساجد سواء كانت للسنة أو للشيعة، لا فرق فهي من «الخوارج»، فاشية هذه الأيام؟!
موضوع بشار الأسد معقد، وهو من ناحية يستحيل بقاؤه بعد أن دمر بلده بأكملها، وعندما يعجز قائد عن حماية بلده ومواطنيه فإن استمراره نوع من العبث التاريخي والأخلاقي؛ ومن ناحية أخرى فقد دخلت فيه كرامة دول وأطراف سياسية، فطهران وموسكو تعرفان جيدا أن الرجل قضية خاسرة، ولكن ماذا تفعل الدول إذا كانت مصداقيتها مع الحلفاء أصبحت على المحك؟ حل العقدة يكون له أكثر من سبيل؛ أولها أن يذهب بشار ولا يذهب؛ فيذهب للعلاج تحت رعاية أسرته في بلد آخر، ولكنه يظل باقيًا اسميًا في الرئاسة بينما يقوم محله أحد خلصائه مثل وليد المعلم وكل ذلك حتى تبدأ إجراءات المرحلة الانتقالية التي تجمع بالمهارة الدبلوماسية بين ما يعرف بجنيف - 1، وجنيف - 2. ولن يكون هذا الحل ممكنًا إلا إذا جرى الضمان الكامل لمصير العلويين في سوريا، وفي الحقيقة كل الأقليات الأخرى. هنا فربما تكون هناك حاجة لضمان دولي حتى ولو تضمن وجود قوات دولية حتى تلملم سوريا أطرافها.

«داعش» هي السرطان الذي يهدد المنطقة أكثر من كل التهديدات الأخرى، وبينما نجحت السعودية والحلفاء من ورائها في استخدام الحرب الجوية في صبر شديد أدى إلى نتائج على الأرض سمحت بدخول قوات برية أصبحت على وشك تأمين الجنوب اليمني؛ فإن نتيجة الحرب الجوية في العراق وسوريا لا تزال متواضعة ولم يتضح بعد عما إذا كانت مساهمة تركيا في الحرب سوف تحقق فارقًا ملموسًا، خاصة لو ظلت تركيا على الظن أن حربها ضد الأكراد هي جوهر المعضلة؟ الأمر هنا يحتاج إلى إعادة تقييم عملياتية إما أن تستخدم الحرب الجوية بطريقة أكثر كفاءة، أو إذا كان ذلك ضروريًا فإن وجود قوات برية سوف يحسم المعركة التي من دونها فإن حل الأزمة السورية، وربما العراقية واللبنانية أيضًا، لن يكون ممكنًا. إعادة التقييم هذه ذات طبيعة سياسية، ومن الجائز أنها كانت موضوعًا رئيسيا فيما يجري الآن من اتصالات، بل لعل ذلك هو المرجح. هزيمة «داعش» مع حل الأزمة السورية مع التقدم الجاري في اليمن، وعجز الإرهاب الجاري في مصر عن شل الدولة، أو خلق قاعدة لدولة، كلها قد تكون مقدمات مرحلة جديدة في حرب الشرق الأوسط التي طالت أكثر مما ينبغي.