إياد أبو شقرا

لفت المراقبين خلال الأسابيع الأخيرة تألق الملياردير اليميني الأميركي دونالد ترامب والسيناتور اليساري العجوز بيرني ساندرز خلال الحملة التمهيدية الحالية لاختيار مرشحي الحزبين الجمهوري والديمقراطي لانتخابات الرئاسة الأميركية. وعلى الجانب الآخر من المحيط الأطلسي يتقدّم المرشح جيريمي كوربن مرشح أقصى اليسار كوكبة المتنافسين على زعامة حزب العمّال البريطاني. ولئن كانت السنوات القليلة الفائتة قد شهدت، بالفعل، بروزًا مقلقًا لقوى اليمين المتطرّف – الذي كان هامشيًا في يوم من الأيام – على امتداد أوروبا، فإن عمق الأزمة الاقتصادية في اليونان جعل الناخبين اليونانيين يسلّمون الحكم لحزب يساري راديكالي حديث التأسيس.


في أميركا، لا يبدو بروز مرشح يميني متشدّد بين المرشحين الرئاسيين الجمهوريين مفاجئا&لسببين رئيسيين:
الأول، أن الحزب الجمهوري ككل اتجّه باطراد منذ عدة سنوات نحو اليمين المحافظ، ولا سيما، مع تثبيت جماعة «حفلة الشاي» المتشدّدة حضورها في قواعده. وحاليًا يشكل التيار اليميني المحافظ، دينيًا واجتماعيًا، القوة الأكبر تأثيرًا وحضورًا ونفوذًا في معركة اختيار مرشح الحزب الرئاسي المقبل.


والسبب الثاني، أن الجمهوريين متحمّسون اليوم لإلحاق الهزيمة بتيار ديمقراطي مُغالٍ في «ليبراليته» قاده باراك أوباما لفترتين رئاسيتين، يشكل فعليًا النقيض الآيديولوجي لليمين الجمهوري. وفي أعقاب تحقيق أوباما عدة انتصارات سياسية على صعيد البرامج الاجتماعية والمعيشية، يرى الجمهوريون أن إخفاء إدارة أوباما تفاصيل اتفاقها النووي مع إيران، وتحمسّها في تسويقه.. على الرغم من شكوكهم واعتراضاتهم، قد يوفّر لهم فرصة للثأر من الديمقراطيين المنساقين انسياقًا وراء الاتفاق.


غير أن المشكلة الحالية عند الجمهوريين هي أن المرشح الذي يحقق التقدم الأكبر في استطلاعات الرأي ليس من نسيج الساسة التقليديين، بل هو رجل الأعمال الملياردير دونالد ترامب المثير للجدل في مزايدته على الساسة واستهانته بهم. واللافت معه تخليه عن التحفظ والوقار اللذين يحرص الساسة التقليديون عليهما لـ«حفظ خط الرجعة» تحاشيًا لاستعداء الأجنحة المنافسة داخل الحزب عند الوصول إلى المؤتمر الوطني العام حيث يصار إلى اختيار المرشح الرئاسي.


حتى الآن، وسط مجموعة متنوّعة من المرشحين الجمهوريين المؤهلين لمنافسة المرشح الديمقراطي (أو المرشحة الديمقراطية) في خريف العام المقبل، يثير ترامب اهتمام الناس لقوله ما لا يجرؤ السياسي العادي على قوله، وهذا بالضبط ما يميّزه. ويبدو أن الناس يريدون سماع شيء جديد. يريدون خطابًا جديدًا.. بعدما اعتادوا على أدبيات قادة الحزبين الكبيرين، اللذين تبعًا لطبيعتهما المؤسساتية في بيئة ديمقراطية تقوم على فصل السلطات وتداول الحكم، يدركون أنه لا بد لهم من «التعايش» و«المساكنة» مهما ارتفع سقف الاعتراضات والإدانات.


شيء مشابه إلى حد ما «بطله» بيرني ساندرز في سباق الديمقراطيين. ساندرز أيضًا حالة استثنائية. وهو وإن كان سياسيًا بامتياز فهو حتمًا ليس تقليديًا على الإطلاق.


ولد ساندرز في مدينة نيويورك قبل 73 سنة في عائلة يهودية. وبعد دراسته فيها ثم في جامعة شيكاغو حيث التحق بـ«رابطة الشباب الاشتراكيين» ونشط في حركة الحقوق المدنية وغيرها من حركات السلام، انتقل عام 1968 للعيش في ولاية فيرمونت الريفية التي تعد إحدى أصغر ولايات أميركا من حيث عدد السكان. وفي فيرمونت – الشهيرة باستقلاليتها السياسية – شقّ ساندرز طريقه داخل عالم السياسة الانتخابية، فانتخب عام 1981 بأصوات «حزب فيرمونت التقدمي» عمدة لمدينتها الرئيسية برلينغتون. وبعد انتخابه للمنصب ثلاث مرات انتخب عام 1990 عضوًا مستقلاً في مجلس النواب الأميركي شاغلاً مقعد الولاية الوحيد في الكونغرس. وبعد 16 سنة أمضاها في الكونغرس، دخل عام 2006 مجلس الشيوخ الأميركي أيضًا شيخًا مستقلاً على يسار الديمقراطيين، وإن كان غالبًا يصوّت معهم. وعام 2012 أعيد انتخابه شيخًا بغالبية ضخمة تجاوزت 70 في المائة. وهو في معركته الرئاسية اليوم يشكل النقيض الآيديولوجي اليساري لـ«يمينية» ترامب الجامحة، إذ إنه ملتزم بقضايا كالعدالة الاجتماعية والضمان الصحي والنزاهة والحريات المدنية والجنسية، ويدافع عنها بشجاعة وصراحة. وهكذا، هنا أيضًا يتجاوب ساندرز مع مشاعر اليساريين والشباب، كما أنه يكسب ثقة الليبراليين، سواء أولئك الذين خاب أملهم من حكم أوباما وأسلوبه البارد، أو الراغبون في بديل عن «كلينتون آخر» في البيت الأبيض.


في بريطانيا، هزّت خسارة العمّال الانتخابات العامة الأخيرة ثقة الحزب بنفسه بصورة لم تخطر ببال أكثر المتشائمين من مناصري الحزب. والحقيقة أن العمّال حسّنوا في الانتخابات مواقعهم في إنجلترا وحصدوا مزيدًا من المقاعد، لكنهم انهاروا تمامًا في اسكوتلندا، حيث اكتسح الساحة القوميون الاسكوتلنديون الذين كسبوا الكثير من التأييد من معسكر اليسار الذي كان في الماضي يدعم العمّال.


غير أن ثمة وجهًا آخر لأزمة الحزب هي الأزمة الآيديولوجية بين تيار اليمين الذي استفاد من الواقعية التي أنتجتها هزائم العمّال بين 1979 و1997 أمام الثاتشرية المحافظة، وتيار اليسار الساخط على ما يراه آفات الانتهازية والمحسوبية والنفاق وحرب العراق التي جلبتها سنوات توني بلير. وفي أعقاب الهزيمة الانتخابية الأخيرة التي تعرّض لها الحزب تحت قيادة «الوسطي» إد ميليباند، ترشح اثنان من الوسط هما آندي برنهام وإيفيت كوبر، ومرشحة عن تيار بلير اليميني هي ليز كندال، في حين واجه اليساري الراديكالي كوربن صعوبة كبرى بجمع العدد الكافي من ترشيحات النواب لدخول قائمة المرشحين. وفجأة، بمزيج من الخفة والسذاجة، قرّر بعض النواب أن يؤمّنوا له العدد المطلوب ناسين أنه بمجرد اعتماده مرشحًا رسميًا يخرج زمام المبادرة من النواب وينتقل إلى النقابات والتنظيمات الحزبية المحلية والناخبين العاديين. وهذا بالضبط ما حصل.


الآن يتصدر كوربن المرشحين بفارق مريح. وثمة من يخشى أن يفوز منذ الجولة الأولى فيحوّل الحزب من «حزب سلطة» إلى «قوة اعتراض هامشية» عاجزة عن الحكم في المستقبل المنظور.


ما نراه دليلاً على ديناميكية الديمقراطية، لكنه أيضًا تحذير لقوى الحكم التقليدية بأن للشارع صوت اعتراض.. يستطيع استخدامه بفعالية ردًا على الخداع والاستخفاف والصفقات الفوقية.