&عادل درويش&

متابعة أعمال المؤتمر السنوي العام لحزب العمال، أكبر الأحزاب البريطانية (من ناحية العضوية)، الأسبوع الماضي، كشفت عن ذهنية النيات الطيبة في البحث عن حلول لمشكلات المجتمع لكنها فاشلة اقتصاديا.

ملاحظاتي أهديها لدعاة الإصلاح في مصر والبلدان العربية التي وجدت اقتصادها، عمدا أو صدفة، تحت إدارة الدولة باعتباره خيارا اشتراكيا، أو بممارسات أدت إلى اعتماد المستهلكين والمنتجين وقطاع الخدمات على دعم الدولة.

جون ماكدونال، وزير مالية حكومة الظل قدم للمؤتمر مشروعا اقتصاديا ماليا لحكومة عمالية على أسس اشتراكية.

في خطابه للمؤتمر توسع زعيم حزب العمال جيرمي كوربن في الخطة ليقدم مشروعا اشتراكيا لم تسمع به بريطانيا لأربعة عقود.

كوربين يريد تأميم وسائل المواصلات، ويفرض ضرائب على الصناعات والبنوك تفوق 500 بليون جنيه إسترليني.

وبجانب إفزاع المستثمر بفرض ضرائب، فلن يكفي المبلغ لتمويل المشاريع المقترحة، ناهيك عن دفع ثمن أسهم المنشآت والخدمات عند تأميمها.

ما يهمني هنا مناقشة مدى ملائمة النظرية الاشتراكية تاريخيا وجغرافيا، أي تطبيقها في العصر الملائم والمكان الملائم.

التأميم أو تملك «الشعب» وسائل الإنتاج هو في قلب النظرية الماركسة والتطبيق الاشتراكي.

السؤال الفلسفي: هل يمتلك الشعب فعليا وسائل الإنتاج؟

عادة الدولة تدير وسائل الإنتاج ببيروقراطيين غير منتخبين لا توجد آليات فاعلة لمحاسبتهم. فمعظم التجارب التي عرفها التاريخ سواء في الكتلة الشيوعية التابعة للاتحاد السوفياتي أو مصر تحت نظام يوليو، وبلدان انقلابات ستينات وسبعينات القرن الماضي، افتقرت إلى برلمانات تستجوب بيروقراطية إدارة وسائل الإنتاج «المملوكة للشعب» أمام لجانها بقدرة قانونية على معاقبتها على الفساد أو التقصير.

في التجارب أعلاه لم يختر الشعب من يدير، وكيف تدار وسائل إنتاج يفترض أنه يملكها لغياب الآليات التي تمكنه من ذلك.

كارل ماركس (ومجموعة الاشتراكيين التعاونيين) في نظريته في منتصف القرن التاسع عشر، كان يتابع ويدرس في بريطانيا مجتمعا صناعيا - أكثر تقدما وابتكارا وتعقيدا من أي مكان آخر في العالم - دخل الثورة الصناعية وبدأ في بناء إمبراطورية بالتجارة قبل قرن كامل. وكان يدعو البروليتاريا إلى ثورة ضد أساليب عمل واستغلال أصحاب أعمال، امتلكوا ويديرون وسائل إنتاج تحقق ثروة موجودة فعلا وخلقوها بأنفسهم.

الاشتراكيون دعاة تأميم وسائل الإنتاج لم يجيبوا عن السؤال: كيف يمكن تأسيس المنشآت الاقتصادية ووسائل الإنتاج من الصفر في بلد حديث الاستقلال يفتقر إلى وسائل إنتاج أو ثروة مالية أو طبيعية؟

كيف يمكن بناء الاشتراكية بلا وسائل إنتاج موجودة أصلا؟

فماذا ستؤمم حكومة الاستقلال (لبناء نظام الكفاية والعدل الاشتراكي الذي وعدت به) إذا غاب «رأسمال» المستثمر؟

ورثت حكومة مارغريت ثاتشر المحافظة 1979 اقتصادا مضطربا من حكومة عمالية اعتمدت إدارة الدولة لمعظم وسائل الإنتاج والخدمات والمواصلات (حكومات هارولد ويلسون وجيمس كالاهان من 1964 إلى 1979 تخللتها حكومة محافظين، إدوارد هيث 1970 - 1974 التي لم تغير نمط إدارة الاقتصاد لصعوبات إضرابات عمال المناجم كمصدر الطاقة، وارتفاع أسعار البترول عقب حرب 1973 في الشرق الأوسط). إرادة ثاتشر إصلاح الاقتصاد وتخفيض البطالة، كان الطريق الأقصر للاستثمار وخلق فرص عمل.

وجد السير جيفري هاو، وزير مالية المحافظين، الخزانة خاوية كظاهرة ملازمة «لتملك الشعب» وسائل الإنتاج. فالقوانين تربط الرواتب بمعدلات التضخم وتثبت الحوافز والعلاوات، وامتيازات العاملين في القطاع العام كبقرة مقدسة. هذا بدوره يخفض دخل الخزانة من الضرائب لغياب مستثمر القطاع الخاص الذي يوفر فرص عمل جديدة.

لجأت وزارة ثاتشر الثانية (1983 - 1987) لبيع خدمات منها مصلحة السكة الحديدية ومرافق المياه ومصلحتي الغاز والكهرباء وخطوط الطيران.

حققت السياسة ثلاثة أهداف أولها بيع الأسهم لأفراد الشعب (حدد القانون مائتي سهم للفرد، لكن طبيعة التعامل في البورصة انتهت بغالبية الأسهم في يد شركات قابضة)، مما أيقظ في الأفراد حافز الاستثمار، عندما حققوا أرباحا ببيع الأسهم في البورصة.

الربح بدوره ولد الحراك لدى الطبقتين، المتوسطة والعاملة المتطلعة، بالاقتراض من البنوك والاستثمار في العقار وفي منشآت جديدة كخدمات وصناعات مكملة. فالخصخصة نقلت تكاليف الصيانة وتطوير الخدمات والمرافق إلى القطاع الخاص. تكاليف كانت تتحملها الخزانة وتقابلها بزيادة الضرائب مما يبطئ النمو الاقتصادي.

ثالثا: بيع أسهم القطاع العام أدخل للخزانة بضعة بلايين وظفت لتمويل بناء وإصلاح البنية التحتية، ودعم خدمات لا تحقق ربحا كبناء المستشفيات والمدارس، مما خلق وظائف جديدة أدت بدورها لضرائب دخل زادت الفائض الكمي في الخزانة فخفضت المالية الضرائب على المواطنين، مما زاد من القدرة الشرائية فراجت سوق الاستهلاك وخلق بدوره وظائف جديدة ونموا.

الاشتراكية تطبق باستيلاء بيروقراطية الدولة على وسائل إنتاج ومنشآت ناجحة وموجودة أصلا، خلقها مستثمرون بالعرق والدموع، وغالبا بإفناء صحتهم، لكن لا يوجد نموذج واحد لنظام اشتراكي أسس وسائل إنتاج من العدم أو بلا فرض ضرائب باهظة، أو حرمان المواطن من أبسط الحاجيات الأساسية لتمويل مشاريع عملاقة يضيع عائدها في الإدارة البيروقراطية وليس على المواطنين.

الخصخصة في مصر كانت فكرة ثورية اقتصاديا، لكن أهدر العائد من بيع القطاع العام بسبب وجود جهاز بيروقراطي ضخم، مع غياب حرية السوق بمعناها الاقتصادي والقوانين المنظمة للتعامل المصرفي والمالي في السوق الرأسمالية وانعدام والمحاسبة البرلمانية.

ورغم انفتاح المجتمع المصري (استهلاكيا وشبه اقتصادي بينما تراجع وانغلق ثقافيا وسياسيا) فلا يزال، أفرادا وجماعات ومنشآت، يزداد اعتمادا على دعم الدولة كأب وراعي الأسرة، بينما تتراجع المبادرات الفردية في الاقتراض والاستثمار.

وحتى البلدان الغنية بالموارد الطبيعية كالخليج مثلا، يعاني سوقها الاجتماعي من ظاهرة دعم الدولة لمعظم الأنشطة (رغم تاريخ بعضها في النشاط والاستثمار التجاري الحر) في الإسكان والتعليم، وحتى العمالة، حيث ترى أغلبية الخريجيين وحملة الشهادات العليا من جامعات الغرب، يسعون لوظائف في الدولة أكثر من رغبة تأسيس منشآت إنتاج تجارية. أي تصبح الثقافة الاقتصادية للمجتمع «اشتراكية» أو بعشوائية افتراضية غير مقصودة.

ولذا بلا تغيير ثقافة الاعتماد على دعم الدولة (في ذهنية الصغار في مراحل التعليم)، وتحفيز المبادرة الفردية التي طورت النظام الرأسمالي مع إصلاح قوانين تنظيم التعامل في السوق، سيتراجع النمو الاقتصادي على الأغلب في معظم البلدان العربية.

&&