&ماجد كيالي

&&اعتاد خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس»، تبنّي سياسة نقدية إزاء منطلقات وممارسات تيارات الإسلام السياسي، وضمن ذلك انتقاد حركته ذاتها، وهذا أمر مهم ولافت، تجدر ملاحظته والاستفادة منه والبناء عليه وتطويره، خصوصاً أن الحركات السياسية في عالمنا العربي، إسلامية أو علمانية، يسارية أو يمينية، وطنية وقومية وأممية، لم تعتد على المراجعة والنقد... ولأن الحركات الإسلامية تحديداً تحاول أن تضفي نوعاً من القدسية على سياساتها ومواقفها، بحيث تُخرِج نفسها من إطار المساءلة والنقد.

أيضاً تنبع أهمية نقد خالد مشعل، هذه المرة (في ندوة حوار نظّمها «مركز الجزيرة للأبحاث والدراسات» أخيراً)، من تناوله دور الحركات الإسلامية في ثورات الربيع العربي، إذ اعتبر أن «الاختبار الحقيقي للإسلاميين... كان بكيفية التمسك بالديموقراطية والاحتكام إلى نتائجها وإن رأوا سياسة الإقصاء لهم، وعدم الاعتراف بهم، وأن يبقوا حريصين على الشراكة وإن ملكوا الغالبية». هكذا وضع مشعل الديموقراطية في صلب مفاهيم التيار الإسلامي، وكطريقة لإدارة الدولة والمجتمع، وليس للاستهلاك، أو لانتخابات لمرة واحدة، ومن دون أي اشتراط مسبق، ولو رأى الإسلاميون أن التيارات الأخرى تشتغل لإقصائهم وعدم الاعتراف بهم، إلى درجة مطالبته إياهم بمشاركة الآخرين في الحكم حتى لو كانوا غالبية (أي التنازل عن الاستفراد بالحكم). وهذا موقف متقدم حقاً، لكنه على الصعيد النظري، فقط، إذ إنه لم يثبت في التجربة بعد (باستثناء تونس) ولم يثبت في تجربة حركته «حماس» في حكم غزة التي تسيطر عليها في شكل أحادي وبطريقة تسلطية.

لم يتوقف مشعل عند هذا الحد في انتقاداته ومراجعاته، إذ تحدث عن خطأين وقع فيهما الإسلاميون «في مرحلة الربيع العربي، أولهما المبالغة في تقدير الموقف بالنسبة إلى الواقع... والمبالغة في الرهان على القوى الذاتية. أما الخطأ الثاني، فهو خلل ونقص في التعامل مع شركاء الوطن»، مشيراً إلى أنه «ثبت بالتجربة العملية أن الغالبية في الصناديق مهمة، لكنها لا تكفي للانفراد بالقرار والمؤسسات».

وهذه ليست المرة الأولى التي يذهب فيها مشعل إلى هذه الدرجة من النقد والمراجعة، إذ سبق له في ندوة عن «الإسلاميين والديموقراطية» (الدوحة، 8/10/2012)، أن طالب حركات الإسلام السياسي بأن تؤسس لنموذج معاصر للديموقراطية، باعتبار أن «هناك فرقاً بين موقع المعارضة والحكم، بين التخيّل والافتراض والمعايشة والمعاناة، وفرقاً بين الناقد والممارس». ورأى أن «على الإسلاميين الاعتراف بأن الحكم أعقد مما كانوا يتصورون»، وتوجه إلى الحركات السياسية الإسلامية وغيرها في حينه بضرورة «التواضع في الوعود للناس وفي ادعاء امتلاك الحقيقة.»

والحال أن مـــا يخشـــى منه حقاً، أن هكذا مراجعات لا تأتـــــي نتيجة قناعة أو نضج في التفكير والتجربة، بل تحت وطأة الضغوط الحاصلة، والتعقيدات الناشئة، وبحكم تراجع التيار الإسلامي.

معلوم أن ما تحـــدث عنه مشعل لا يتم التعبير عنه في مراجـــعة أو تغيير طريقة «حماس» في إدارة قطاع غزة مثلاً، لا سيما أن المتحدث هو زعيم هذه الحركة، بمعنى أن هذا الكلام يبقى في الإطار النظري، من دون أن يقلّل ذلك من أهميته. كما لا يبدو أن هذا النقد يتمثّل في ثقافة منتسبي «حماس» والمتعاطفين معها، وهذا ينطبق على منتسبي الحركات الإسلامية في البلدان الأخرى، والتي يبدو أنها تجد نفسها على استحياء مضطرة لانتقاد سياساتها وأفكارها.

ثمة ملاحظات أخرى على نقد مشعل لحركته «حماس» وللتــيار الإسلامي عموماً، وهو نقد جيد وفي محلــــه، وتنبغــــي الاستفـــــادة منه والبناء عليه. بـــيد أن ذلك لا ينسيـــنا أن مثـــل هــذه الانتقــادات كانت صــدرت، في حينه، عن كتاب ومثــــقفـــين وأصحاب رأي لكنها مع الأسف كانت تقابـــل من «حماس» والكيانـــات السياسية الإسلامية بالمكابرة والإنكار والصدّ والتشكيك بدلاً من دراســـتها، ما يعني أننا لا نتعـــلم مــــن تجاربنا ولا ننقد أنفسنا في الوقــت المناسب ولا نولي الرأي الآخر أي اعتبار، وهذا ديدن معظم الحركات السياسية، لا سيما السلطوية والأيديولوجية في عالمنا العربي.

مع ذلك، أن تأتي متأخراً خير من ألا تأتي أبداً، ويبقى المحك أن يتحول هذا الخطاب النقدي إلى ثقافة والى ممارسة، أي بالوفاء للنقد بالذهاب إلى نهاياته أي بترجمته في مواقف وممارسات وثقافة الجماعات الإسلامية.

أهمية هذا الخطاب أنه يأتي، أيضاً، في إطار سعي بعض الحركات الإسلامية، لا سيما تلك المحسوبة على جماعة «الإخوان»، إلى إجراء مراجعة لأفكارها ومنطلقاتها، والتصالح أو التكيف، مع الواقع والعصر والعالم. من هنا جاءت «وثيقة العهد والميثاق» لـ «الإخوان» في سورية (آذار 2012)، رغم نسيانهم لها، وكذلك مراجعات الشيخين راشد الغنوشي وعبد الفتاح مورو وحركة «النهضة» في تونس، وهذا ما يظهر في اجتهادات الحركة الإسلامية في المغرب.

أقصد أن التيارات الإسلامية معنية بإظهار انتمائها إلى الحاضر أكثر من الماضي، وللواقع أكثر من المتخيل، وللتسامح أكثر من التطرف، وتعزيز دفاعها عن قيم الحرية والعدل والمواطنة، وتالياً القطع مع أفكار الحاكمية والتكفير والحدود والخلافة... وتمييز نفسها عن الجماعات المتطرفة والتكفيرية مثل «داعش» و «القاعدة» وأي من أخواتهما أو امتداداتهما، والتحول إلى حركات سياسية بمعنى الكلمة، بفصل السياسي عن الدعوي، وبتحرير الدين من التوظيفات المتعلقة بصراعات السياسة والسلطة.

حركات سياسية نعم، حركات دينية وجهادية لن تنجح ولن تجدي وستضر بشرعية وصدقية التيارات السياسية الإسلامية، وبتطوّر الحياة السياسية في مجتمعات العالم العربي.