&صالح القلاب&&&

عندما يُبلغ وزير الخارجية الأميركي جون كيري بعض قادة المعارضة السورية، وهو يكاد يجهش بالبكاء، أنه «محبط» لأن دعواته لاستخدام القوة ضد هذا النظام السوري لم تلق آذانًا صاغية، ولأن ثلاثة فقط في الإدارة الأميركية يؤيدون هذا الخيار، فكأن هذه دعوة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين لمواصلة تحدي الولايات المتحدة، واستكمال السيطرة على سوريا كلها بعد القضاء على المعارضين السوريين، الذين نصحهم هذا المشرف على الملف السوري من الجانب الأميركي، بأن يقبلوا بالمشاركة في انتخابات رئاسية وتشريعية بوجود بشار الأسد!

وعندما ينصح مسؤولون كبار في «الكونغرس» الأميركي، من الحزب الجمهوري المعارض، بعض كبار رموز المعارضة السورية بأن يتجنبوا إبرام أي اتفاق حلٍّ لأزمة سوريا في هذه الفترة التي تسبق الانتخابات الرئاسية الأميركية، لأنه سيكون بمثابة إملاءات روسية، نظرًا لأن موقف الرئيس باراك أوباما من هذه الأزمة سيزداد سوءًا، ولأن الروس قد كشفوا كل أوراقه، وأدركوا أنهم يستطيعون فعل ما يشاءون، ليس في هذا البلد وحده، وإنما في المنطقة كلها!

وهنا، فإن المعروف أنه قد جرت العادة أن تصبح الإدارة الأميركية، مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية، بمثابة «بطة عرجاء»، لكن تجربة الأربع سنوات الأخيرة من عهد هذه الإدارة أثبتت أنَّ باراك أوباما أصبح هذه «البطة العرجاء» مبكرًا، عندما تراجع عن تلك الضربة العسكرية ضد نظام بشار الأسد بعد مشكلة الأسلحة الكيماوية والغازات السامة.

ما كان من الممكن أن تصل الجرأة بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالتدخل في سوريا، لو لم يتأكد من أن الإدارة الأميركية قد أصبحت «بطة عرجاء» بالفعل، وأن رئيسها ليس صاحب أي قرار «استراتيجي»، وأنه بالإمكان أن يفعل الروس ما يشاءون في هذه المنطقة الحيوية، بالاعتماد على ميوعة الأميركيين في عهد هذه الإدارة التي اعترف قبطان سفينة سياساتها الخارجية بأنه أصبح «محبطًا»، لأن رغبته في استخدام القوة ضد نظام بشار الأسد أو التلويح بها لم تلق آذانًا صاغية، ولأن ثلاثة فقط من بين رموز هذه الإدارة قد استجابوا لهذه الدعوة.

وهكذا فإن تعاطي إدارة أوباما «الانكفائي» مع الأزمة السورية قد أوجد فراغًا ملأته، على عجل ودون أي تأخير، روسيا الاتحادية، ثم إنه من المعروف أن «إسراع» هذا الرئيس الأميركي بسحب القوات الأميركية من العراق قد أوجد فراغًا مبكرًا بادر الإيرانيون إلى ملئه عسكريًا وسياسيًا وعلى كل المستويات، وذلك إلى حدِّ أنهم باتوا يحتلون هذه الدولة العربية الرئيسية احتلالاً كاملاً، وعلى ما هي الأمور عليه الآن، وحيث تواطأ «هؤلاء» مع رئيس الوزراء السابق نوري المالكي لتسليم مدينة الموصل ومنطقة الأنبار كلها لتنظيم داعش الإرهابي، الذي تجري الآن كل هذه الاستعدادات التي يقودها ويشرف عليها الأميركيون للقضاء عليه واقتلاعه من كل مناطق بلاد الرافدين، وربما من سوريا في فترة لاحقة.

إن هذا كله ومعه رداءة وميوعة السياسة التي تعاطى بها باراك أوباما مع هذه الأزمة السورية التي غدت مستفحلة، ومعه أيضًا تردد بعض الداعمين في تقديم إسناد فعال، خصوصًا بالأسلحة المتطورة للمعارضة السورية التي كانت قد نبتت في الصخر، كما يقال، نظرًا لخضوع سوريا لنظام من أسوأ الأنظمة الاستبدادية في العالم كله ولنحو أكثر من أربعين عامًا، قد شجع فلاديمير بوتين على المزيد من التمادي، وإلى حدِّ أن «الكرملين» قد هدّد بأنَّ استهداف الأميركيين لنظام بشار الأسد سيؤدي إلى زلازل مدمرة في هذه المنطقة «الشرق أوسطية» كلها.

وبالإضافة إلى أن سوريا قد أصبحت عمليًا ملحقة بروسيا الاتحادية، وأصبح قرارها في قاعدة «حميميم»، وليس في دمشق، فإنَّ ميوعة السياسة الأميركية قد شجعت «ستالين» الجديد، فلاديمير بوتين، على التمادي في استهداف تركيا وتنشيط إرهاب حزب العمال الكردستاني - التركي (p.k.k) ضدها، مما اضطر الرئيس رجب طيب إردوغان بعد ضربة مطار مصطفى كمال أتاتورك، وبعد محاولة الانقلاب الفاشلة التي يتهم فتح الله غولن بأنه هو الذي رتبها من مقره في بنسلفانيا في الولايات المتحدة، إلى الاعتذار لموسكو عن حادثة إسقاط الطائرة الروسية المقاتلة المعروفة وفتح صفحة جديدة مع موسكو، ولكن مع التأكيد مرارًا وتكرارًا وعلى لسان رئيس وزرائه بأن موقف بلاده من الأزمة السورية لا يزال على ما هو عليه ولم يتغير.

في كل الأحوال لقد اتضح أن فلاديمير بوتين، هذا «الستاليني» المغامر قد شجعه التردد الأميركي في سوريا، وشجعه تردد باراك أوباما بعد السيطرة على هذا البلد العربي المحوري والاستراتيجي، على التطلع بعيدًا، والسعي لاستعادة مكانة الاتحاد السوفياتي الإقليمية والدولية، عندما كان في ذروة قوته وتألقه بدءًا بتسوية الأوضاع في أوكرانيا وبالطبع في جزيرة القرم وبجمهوريات البلطيق، وكل هذا وبالطريقة السوفياتية المعروفة، حيث قد تم قمع الجيش الأحمر لانتفاضة المجر عام 1956، وكان ربيع براغ في عام 1968، وكان غزو أفغانستان غير الموفق في عهد حفيظ الله أمين في عام 1979.. وكان حضور موسكو المؤثر الدائم في كل الأزمات الدولية، ومن بينها أزمة الصواريخ السوفياتية في كوبا، التي كادت تؤدي إلى حرب عالمية جديدة لولا تراجع نيكيتا خروتشوف وإدوارد كينيدي في اللحظة الأخيرة.

وهكذا.. ويقينًا أنه إذا نجح فلاديمير بوتين في سوريا كما نجح في غروزني وباتباع الأسلوب الوحشي - التدميري الذي اتبعه في الشيشان، وفي هذه الدولة العربية، فإنه سينتقل إلى أوكرانيا.. وبعدها إلى بعض دول أوروبا الشرقية التي أصبحت «مضيفةً» لصواريخ حلف شمال الأطلسي الموجهة إلى كل المواقع والمناطق الاستراتيجية الحساسة في روسيا الاتحادية، وهنا فإن المعروف أن زعيم الصين التاريخي ماو تسي تونغ، كان قد قال عندما أطلق المسيرة التاريخية: «إن طريق الألف ميل يبدأ بخطوة واحدة».. وهذا يعني أن نجاح بوتين في هذا البلد العربي قد يكون هو الخطوة التي ستأخذه إلى استعادة ما خسره الروس بعد فشل التجربة الماركسية - اللينينية وانهيار أول تجربة سوفياتية.

لقد شجَّعَت مراهنة الأميركيين على الروس، الذين من المفترض أنهم منافسوهم وبالتالي أعداؤهم، أكثر من مراهنتهم على أصدقائهم وفي مقدمتهم تركيا العضو المؤسس في حلف شمال الأطلسي، على سعي هؤلاء الأصدقاء إلى التقارب مع موسكو، وإلى غض النظر عن بعض نزوات فلاديمير بوتين العسكرية والسياسية، ولذلك فإنه غير مستبعد، إن لم تغير وتصحح الإدارة الأميركية الجديدة توجهات الولايات المتحدة الدولية، أن يأتي يوم قريب ليرى العالم الاتحاد السوفياتي في حلته الجديدة في صوفيا ووارسو وبلغراد وزغرب.. وأيضًا في بودابست.

&&