&عادل درويش&&&

حذر الزعيم البريطاني الأسبق توني بلير من تحول البلاد، فعليًا لا دستوريًا، إلى نظام الحزب الواحد.

في أعرق الديمقراطيات وأكثر الأنظمة البرلمانية الديمقراطية نضجًا يأتي التحذير من رجل دولة متمرس في العمل البرلماني.

وقد يكون المستر بلير كرئيس حكومة مثيرًا للجدل، لكنه صوت حكمة. من الغفلة عدم دراسة تحذيراته بجدية.

وقد يختلف كثيرون معه في خيارات التدخل العسكري الاثني عشر (خصوصًا العراق وأفغانستان)، لكن لا يختلف اثنان على تطويره حزب العمال (فاز بثلاثة انتخابات متعاقبة، وأبقى الحزب في الحكم 13 عامًا ما بين 1997 و2010)، وعلى فهمه أولويات الناخب وحاجات المواطن العادي، ليس فقط في بريطانيا، بل في عدد من البلدان العربية والأفريقية. فبلير بين قلة من ساسة العالم في تفهمهم لتحرك جماهير الشارع المصري في 2013 لرفض الفاشية الدينية وديكتاتورية الإخوان، بينما زملاؤه يخلطون ما بين الديمقراطية كبيئة سياسية اجتماعية وثقافة متكاملة، والانتخابات كعنصر منها، وبالتالي لا يزالون يتعاطفون مع هذه الجماعة لمجرد أن الشعب المصري انتخب ممثلها رئيسًا، متجاهلين تحرك بقية مؤسسات المجتمع والجماهير لاستدراك نتيجة عنصر واحد.

رغم تكرار تحذيراته من الحالة المزرية - انتخابيًا - التي وصل إليها حزب عريق يفترض تمثيله الطبقات العاملة والفئات الأقل حظًا، فإن تحذيره الأخير أعقب خطاب رئيسة الوزراء المحافظة، تيريزا ماي، في ختام المؤتمر العام للحزب الذي حددت فيه ملامح سياساتها.

ما أزعج توني بلير وزعماء تيار الوسط في حزب العمال ثلاثة أمور؛ الحزب بزعامته الحالية، غير قادر على كسب ما يعرف بأرضية الوسط الانتخابية؛ ما بين 50 و80 دائرة انتخابية متأرجحة، أي عندما تتغير غالبية الأصوات فيها من حزب إلى آخر، يفوز في الانتخابات (بينما هناك نحو 450 أو 500 دائرة نادرًا ما تتغير الأصوات فيها، فهي غالبًا مع المحافظين أو العمال أو الأحرار، أو الأحزاب القومية الأخرى في اسكوتلندا وإمارة ويلز).

كما يعجز الحزب عن تقديم حكومة ظل للناخب، يقتنع بأن برامجها في مصالحه، بديلة عن حكومة المحافظين، بسبب موقف زعامة الحزب اليسارية المتطرفة، التي يمثلها الاشتراكي الكلاسيكي جيرمي كوربين ومجموعته (مشروع سياستهم كأنه بيان اتحاد الطلبة عشية مظاهرة في الجامعة في ستينات القرن الماضي)، المتصادم مع غالبية نواب الحزب من المجموعة البرلمانية ومعظمها من التيار البليري، الذي يمثل جناح الديمقراطية الاشتراكية بمدرستها الوسطية الأوروبية.

السبب الأكثر خطورة، في تقدير بلير، هو لجوء رئيسة الحكومة السيدة ماي إلى طرح برنامج عمل، يبدو في جنوحه للجوانب الاشتراكية أكثر ملاءمة لأن يقدمه زعيم حزب العمال الاشتراكي، وليس زعيمة حزب المحافظين من مدرسة حرية السوق وحرية الاستثمارات الفردية وتقليص دور الدولة وتدخل الحكومة في شؤون المواطن؛ فهي تريد إلغاء برنامج التقشف، وطرح أراضي الدولة لمشاريع بناء المساكن الرخيصة بالتمليك بالتقسيط بدعم من الحكومة، وإلغاء لوائح فحص واختبار المطالبين بمنح المعوقين الاجتماعية، وإصلاح لوائح وقوانين حماية حقوق العمال، وتحذير الأثرياء والقطط السمان المتهربين من الضرائب ومديري شركات الطاقة الذين يرفعون الأسعار على المستهلك بأن حكومتها تقف لهم بالمرصاد وستنال منهم.

الرسالة ليست فقط معاكسة لرسالة سابقها ديفيد كاميرون الذي تمسك بحرية السوق، وتقليص دور الحكومة، وطرح وزير ماليته برامج تقشف، وكانت نصيحته للشاكين من مغالاة شركات الكهرباء والغاز بـ«أن يبحثوا عن شركات طاقة بديلة»، بل إن السيدة ماي اقتبست (أو كما يتهمها العمال سرقت) اقتراح زعيم المعارضة العمالية السابق إدوارد ميليباند بمشروع قانون لتحديد أسعار فواتير استهلاك الطاقة للمنازل، خصوصًا الطبقات الفقيرة.

ولأن الزعيم الحالي لحزب العمال «الاشتراكي» عاجز عن تكوين حكومة ظل بديلة ومشروع اقتصادي اجتماعي بديل للحكومة، كما أنه ربما يكون أقرب إلى الاشتراكية الماركسية السوفياتية القديمة (التي رفضتها الشعوب السوفياتية السابقة نفسها)، منها إلى الاشتراكية الاجتماعية الديمقراطية الحديثة، فإن الناخب البريطاني في دوائر التأرجح الوسطية يرفضه. صحيح أن لكوربين مؤيدين بين تيار شعبي يساري ناشط اشتراكي بثقل مليونين أو ثلاثة، لكنه تيار نصفه في لندن وبقيته موزع على أنحاء المملكة، لا يمكن له أن يرجح كل الأغلبية في عشرين دائرة، لا 60 دائرة، العمال في حاجة لانتزاعها من المحافظين، وخسارة المحافظين عشرين دائرة لأحزاب أخرى كي يتمكن العمال من الفوز بالأغلبية في الانتخابات المقبلة.

ناخبو منطقة الوسط متوجسون من زعيم العمال كوربين لسببين؛ أولهما تهاونه في مسألة الدفاع عن أمن المملكة، إذ يريد نزع السلاح النووي ورفض إطلاق تصريحات تأييد للجنود الذين يقاضيهم محامون بتهم انتهاك حقوق الإنسان أثناء حرب العراق. السبب الثاني أن مصدر تمويل مشاريع كوربين الاقتصادية، كتأميم المرافق والموصلات وبناء المساكن، غير واضح، اللهم إلا إذا فرض ضرائب جديدة، وهو أمر ضرره على الفقراء يفوق أضعافه على الأغنياء.

ولذا فمن الأرجح أن تكسب رئيسة حكومة المحافظين بمشروعها الاشتراكي الديمقراطي ما لا يقل عن ثلث أصوات الوسط، إن لم يكن نصفها، مما يهدد بخسارة العمال ما قد يصل إلى خمسين مقعدًا برلمانيًا في الانتخابات المقبلة. أمر يزعج بلير، إذ سيرى الحزب الذي قاده لخمسة عشر عامًا وأوصله إلى الحكم لـ13 عامًا متعاقبة ينهار أمام عينيه.

السبب الآخر وطني تاريخي يشاركه فيه، ليس فقط أي بريطاني حريص على بلاده، بل أي شخص في العالم حريص على الديمقراطية، خصوصًا أن أم البرلمانات في وستمنستر هي نموذج يتطلع إليه العالم شرقًا وغربًا، وفي القارات السبع، للاهتداء به وتعلم دروسه، وتقليده كأفضل نماذج الحكم التي وصلت إليها الإنسانية الراقية. استيلاء المحافظين على منطقة الوسط للناخبين، وانتهاء العمال كمعارضة مؤثرة وحكومة ظل بديلة ستضمن فوزهم في انتخابات 2020 وربما في انتخابات تسبقها (إذا نجحت ماي في إقناع البرلمان بإنهاء المدة المحددة قبل عام 2020 بأغلبية ثلثين لا يملكها المحافظون اليوم) مع تقليص الدوائر من 650 إلى 600، وموازنة عدد الناخبين ستكون لصالح تيار الوسط، أي إعادة انتخاب المحافظين لفترتين.

ومهما كانت نيات رئيسة الحكومة طيبة، فإن السلطة بلا معارضة قوية ومؤثرة في النظام البرلماني تساوي عمليًا نظام الحزب الواحد كأقصر طريق للفساد أو ديكتاتورية الأغلبية غير المقصودة. ومع غياب معارضة برلمانية تنسى الصحافة حيادها وتلعب دور المعارضة، بينما يلجأ المظلومون إلى القضاء فتنشغل المحاكم عن العدالة المحايدة بقضايا هي في الأصل من مهام المعارضة البرلمانية.

ولا ديمقراطية حقيقية بغير معارضة قوية فاعلة تضبط تجاوزات حكومة الأغلبية.

&&

&