أمير طاهري

سواء كنت تحب دونالد ترامب أم لا، فهناك أمر واحد عنه لا يمكن إنكاره، ألا وهو أنه نجح في إزعاج المسؤولين السياسيين الأميركيين كما لم يفعل أي شخص آخر في الذاكرة الحديثة. ويبدو الأمر كما لو أنه شيد حملته الانتخابية لرئاسة الولايات المتحدة على أساس شعار «كيف تخسر الانتخابات الأميركية».

أولاً، لقد ألقى الرجل بقبعته في الحلبة الانتخابية دونما سنوات من التحضير، وهو الأمر الذي لم يجرؤ أي مرشح رئاسي يستحق أدنى قدر من الجدارة قد فعله من قبل، حيث كان جميع منافسيه الجمهوريين الأوائل يعمل كل منهم على مشروعه الرئاسي قبل الانتخابات بسنوات، وبعضهم اختبر الأمور بنفسه في انتخابات رئاسية سابقة. لكن ترامب، رغم ذلك، انضم إلى السباق الرئاسي في اللحظة الأخيرة، كما لو كانت نزوة من النزوات التي يعصف بعقل صاحبها في لحظة ما. وفي المراحل الأولية من السباق لم يكن لديه حتى مجرد مدير جيد للحملة الانتخابية، ناهيكم بجيش من صناع الصور، والكلاب المدربة على الهجمات السريعة، والرواد الذين يعرفون كيفية استمالة الحلفاء المحتملين إلى صفوفهم.

وغني عن القول، لم يكلف ترامب نفسه عناء تأمين الأموال الأساسية التي يحتاج إليها كل مرشح انتخابي أميركي، واعتمد في بداية الأمر على قرض كان قد منحه بنفسه لحملته الانتخابية.

وهناك شيء آخر لم يعبأ ترامب بالتفكير فيه وهو السياسات، أو على الأقل، الخطوط العريضة للسياسات، التي يحتاج كل مرشح انتخابي إليها حتى يبدو بمظهر الجدية المطلوبة في السباق، مما يعني أنه ليس لديه

مستشارون سياسيون على الأرجح. ولم يكلف نفسه عناء تعيين أي منَحَملة الدكتوراه من خريجي جامعات هارفارد وييل المرموقتين، الذين يعرفون كل شاردة وواردة، ويقدمون الخيارات الناجعة في أمور السياسة الأميركية تحت شمس النهار.

السياسات؟ يمكن لترامب أن يصوغها بإصبع قدمه الصغير. كما أن المرشح الأميركي للانتخابات الرئاسية يحتاج أيًضا إلى شيء يسمى الوقار. ولضمان الوقار يحتاج المرشح الرئاسي إلى سترة فاخرة من اللون الرمادي والأزرق مع رابطة عنق من الحرير
الطبيعي ومن الألوان المطابقة كذلك. 

وفي هذا الخصوص أيًضا، لا يمكن لترامب أن يعد من المرشحين النموذجيين. وعلى الرغم من أنه من أصحاب المليارات، كما يزعم تماًما، أو من أصحاب الملايين كما تشير حساباته المصرفية، فعندما يتعلق الأمر بالملابس فإن أفضل ما يمكنه فعله هو اختيار ستراته من متاجر «بروك براذرز» العادية.

والأسوأ من ذلك، أن ترامب يتجاهل النماذج الكلاسيكية لسلوكيات المرشحين الرئاسيين من خلال استفزاز الجميع من خلال تصرفاته ومفرداته اللغوية التي تناسب البحارة، بدلاً من أن تلائم الرئيس المفترض أن يكون «والد الأمة الأميركية». كما أنه حريص على وخز الإبر في كثير من البالونات الإعلامية الأميركية الكبرى الذين يعتقدون بسبب أنهم على شاشات التلفزيون فإنهم أجدر بالتملق من الجميع، كما لو أنهم يعيشون بين الآلهة على جبل الأوليمب العتيق. وكانت مشاهدة ترامب وهو يقاطع مغنيات التلفاز ومختلف الشخصيات الأخرى من المشاهد الممتعة للمتابعة والتعليق.

وكان كل ذلك قبل أن يبدأ أصدقاؤه السابقون في بيع أشرطة الفيديو القديمة للرجل، التي يظهر فيها وهو يجعل من نفسه أضحوكة لوسائل الإعلام الموالية للمعسكر الديمقراطي. وليس من المستغرب، وربما لأنهم فشلوا في قياس أداء ترامب، أن تكتب وسائل الإعلام الأميركية النعي السياسي للمقاول العقاري الكبير في عدد من المناسبات الأخيرة. وفي كل مرة كان الإجماع ينعقد على أنها
المرة التي اغتال ترامب حملته الانتخابية بحق. ولكن في كل مرة أيًضا، كما هي الحال في مسلسل كرتون «القط والفأر» الأميركي الشهير، «توم وجيري»، يقفز الفأر مجدًدا لاستكمال مشاكساته الموجعة للقط بمزيد من القوة.

وفي حين قد يكون التسلسل قبل الأخير في هذه القصة الغريبة، كاد ترامبُيجرد تماًما من منصبه مرشًحا للحزب الجمهوري في الانتخابات الرئاسية، بعدما أعلنت مؤسسة الحزب الجمهوري تخليها عنه.

وبعبارة أخرى، فإن ترامب يتوجه إلى يوم الاقتراع المقرر في الثامن من نوفمبر (تشرين الثاني) مرشًحا مستقلاً، عن نفسه وبنفسه، وليس بأي حال من الأحوال مديًنا بالفضل إلى أي نظام حزبيُيذكر. أيًضا، هذا من المواقف غير المسبوقة في تاريخ الانتخابات الرئاسية الأميركية.

والمفاجأة في كل ذلك أن هيلاري كلينتون، مرشحة الحزب الديمقراطي في الانتخابات الرئاسية، لم تكن قادرة على مجرد تجاوز منافسها الجمهوري المعيب كمثل الملكة على بساط الملك. لم يمنح أي من استطلاعات الرأي السيدة كلينتون أي شيء يقترب من نسبة الـ50 في المائة من أصوات الناخبين، مما يشير إلى أنه حتى لو انتهى بها الأمر بالفوز في الانتخابات، كما يتوقع كثير من المراقبين والنقاد، فسوف تكون أكثر بقليل من أهون الشرين.

ومع أقل من شهر على يوم الاقتراع الكبير فإن الناخب الأميركي أمامه اختيار صارخ بين المرشحة الديمقراطية التي تمثل النخبة الحاكمة التقليدية في البلاد وقواعدها وممارساتها الراسخة، ودونالد ترامب، الذي يصور نفسه زعيم التمرد غير المحدد، ولكنه المغري للغاية.

وفي هكذا سياق فإن الطلب من قبل كثير من المرشحين الجمهوريين أن ترامب ينبغي عليه الاستقالة مرشًحا رئاسًيا عن الحزب الجمهوري، والسماح للحزب باختيار مرشح آخر، ليحمل لواء الحزب في الانتخابات، هو

طلب مفعم بالسذاجة، وربما يكون طلًبا خطيًرا للغاية. فالديمقراطية، كما لاحظناها في كثير من الأحيان، تحدد الإجراءات فقط، ولكنها لا تضمن النتائج.

والانتخابات من الإجراءات المفيدة، لأنها توفر التقاط الصورة الذاتية لحالة الرأي العام لدى الناخبين. والطلب من ترامب أن ينسحب قبل الانتخابات هو محاولة لتجميل ومونتاج تلك الصورة الذاتية حتى قبل أنُ تلتقط.

وفي الأيام الخوالي للاتحاد السوفياتي القديم، كان هذا التكتيك الانتخابي قد استخدمه ستالين في خداع المعارضين بكثير من الصور والأفلام التاريخية. يتفق الجميع تقريًبا على نقطتين على الأقل فيما يتعلق بهذه الانتخابات.

النقطة الأولى هي أن ترامب يعكس آمال ومخاوف قطاع عريضوكبير من المجتمع الأميركي اليوم. ولقد تعمدت السيدة كلينتون السخرية والتهكم من تلك الشريحة ووصفتهم بأنهم «ُيرثى لهم». والرئيس أوباما نفسه، وهو من أنصار حملة السيدة كلينتون، قد وصفهم بأنهم حشد «11 – 7» على اسم سلسلة من المتاجر المعروفة في الولايات المتحدة التي يرتادها المواطنون الأميركيون من غير الأثرياء.

وعلى أمل الدفع بترامب إلى خارج المضمار الرئاسي، ينشر الديمقراطيون أيًضا الشائعات بأن ترامب هو في واقع الأمر «عميل روسي»، وأن فلاديمير بوتين قد أحيا جهاز الاستخبارات السوفياتي القديم «كي جي بي»، بهدف تدمير المرشحة الرئاسية كلينتون بمساعدة من موقع «ويكيليكس»، وفيما بعد عن طريق القرصنة الإلكترونية على ماكينات الاقتراع في الولايات المتحدة، لكي تخرج نتائج الانتخابات في صالح دونالد ترامب.

والنقطة الثانية، هي أنه ما من أحد يعرف على وجه التحديد مدى قوة أو ضعف القاعدة الانتخابية المؤيدة لدونالد ترامب. ومع ذلك، من المهم للغاية معرفة ذلك. والسبيل الوحيد لمعرفة هذا هو السماح لترامب، الذي، كان على صواب أو على خطأ، قد ظهر كبطل أبطال تلك الشريحة العريضة من المواطنين الأميركيين، بأن يستمر في سباقه الانتخابي مرشًحا عن الحزب الجمهوري حتى النهاية.

وإذا ما فاز ترامب، فسوف نعرف أن الولايات المتحدة تضم بين جنباتها غالبية عظمى من المواطنين الغاضبين، وإن لم يكونوا في مزاج التمرد حتى الآن، ولمجموعة متعددة من الأسباب التي يجب الوقوف عليها وتحديدها ومعالجتها. أما إذا خسر ترامب، فسوف نعرف أن الولايات المتحدة فيها أقلية من المواطنين الأميركيين غير الراضين من أصحاب المطالب المختلفة، وفي بعض الأحيان المتضاربة، التي لم يعد بالإمكان تجاهلها من قبل المؤسسة الحاكمة التي سوف تكون السيدة كلينتون هي زعيمتها في هذه الانتخابات. 

ويلعب ترامب في الوقت الراهن دوًرا مفيًدا عن طريق «العبث» بالإجماع الأميركي اللين والمنعقد منذ عقود الذي دفع بكثير من الانقسامات الأميركية العميقة إلى أسفل البساط منذ سنوات طويلة.

أتكرهون دونالد ترامب؟ حسًنا. انتظروه في يوم الانتخابات وسوف تعلمون ما تفعلون وقتها.