عادل درويش 

تناولت جرعات «تخمية» من شبكات التلفزيون المصرية والعربية لأسابيع لغرض البحث، وعادة لا أشاهد هذه الشبكات؛ أولاً لانشغال معظم وقتي بالسياسة البريطانية، وبرلمان وستمنستر ينعقد لساعات متأخرة، وثانيًا لافتقاري لـ«دش» (ساتلايت)، لأن لائحة الـconservation area أو المحافظة على الطراز المعماري، تمنع تركيبه؛ فقد يؤثر على مظهر معمار 1860 (عام بناء الدار).
تابعت الشبكات من بيوت أصدقاء «مدششين» تلفزيونيًا أو على الإنترنت بمساعدة أصغر أفراد قبيلة درويش سنًا، آرثر، ابن الثانية عشرة، فاكتشفت عبر الشبكات العربية parallel world عالمًا موازيًا أو افتراضيًاvirtual world، بالنسبة لخبرتي كنصف قرن صحافة.. عالمًا غير واقعي.
في 19 سبتمبر (أيلول) تناول الصديق مأمون فندي في مقالته إشكالية الدقة المعرفية والمعلوماتية في مقارنة بين الصحافتين (خصوصًا المرئية والمسموعة) العربية والأنغلوساكسونية. وبينما الثانية تتوخى الدقة ابتليت الأولى بوباء يبدو أن لا مناعة أو دواء له: خبير الفتوى «في كل حاجة»، نافثًا معلومات مضللة. أراد الدكتور فندي أن يستهل مقالة في صحيفة أميركية عن سقوط صدام حسين بمقطع من أغنية الست (أم كلثوم) «كان صرحًا من خيال فهوى» (قصيدة الأطلال للدكتور إبراهيم ناجي)، فطلبت منه محررة صفحة الرأي إضافة المعلومات: أين ومتى غنّت «الست» المقطع، وفي أي مناسبة.
طلب المحررة مألوف لأبناء جيلي، خصوصًا أنني قضيت نصف قرن في «فليت ستريت» (شارع الصحافة البريطاني) حيث اعتدنا (قبل الإنترنت) رص مئات من كتب المعلومات ودوائر المعارف والقواميس والأطالس (الخرائط الجغرافية) وقواميس اللاتينية كلغة أساسية لأي صحافي في قسم الـsub – editors (لا ترجمة بالعربية سوى «سكرتارية التحرير» غير الدقيقة. الـsub - editing أو مطبخ التحرير أو، حرفيًا، التحرير المبدئي، عدة مراحل: ضبط الصياغة بأسلوب الصحيفة. استخدام صحيح للأقواس - ( ) [ ] - « « - ‹› فلكل منه غرض مختلف، وضبط عدد الكلمات لملء المساحة). الـsubs (جمع الكلمة المختصرة للمحرر المبدئي) مهمتهم الأولى تدقيق صحة المعلومات والأسماء والتواريخ والأماكن جغرافيًا. أذكر عند الإعداد لإطلاق «إندبندنت» قبل ثلاثين عاما الـmanaging editor المدير التنفيذي (غير وظيفة مدير التحرير في الصحافة العربية، فالإنجليزي مهمته اقتصادية إدارية مع مراجعة ملاءمة سياسة الجريدة لنوعية القراء) أراد التوفير بتقليص الـsubbing وهي كلمة ابتدعها الصحافيون بتحويل الاسم «التحرير المبدئي» إلى الفعل (مرونة لغوية في الإنجليزية لم تتطور في اللغة العربية بعد). اعتقد إمكانية إحلال أول برنامج كومبيوتر للتحرير الصحافي (ابتدعته شركتا «كوداك» للتصوير و«آي بي إم» لصحيفة الـ«بوسطن - غلوب» في مطلع الثمانينات) محل المعرفة الإنسانية. وأصاب صحافيي المدرسة الكلاسيكية الهلع من اقتراح يستبدل بحصاد قرون من المعرفة الإنسانية جهاز كومبيوتر أميركيًا (من بلد لم يختبر الحضارة ولا يعترف مجتمعه بالتاريخ).
في بحثي بمتابعة عشرات الساعات لتلفزيونات عربية تأكدت من صواب ملاحظة الدكتور فندي في انتشار ظاهرة الخبير «الذي يفهم في كل شيء». من مجاعة في أفريقيا، أو قرار مجلس الأمن، أو السلاح النووي أو وسائل تحديد أو تنظيم النسل، تجد حضرة البروفسور الخبير يقدم فتواه، بلا معلومات، وإن ذكر بعضها فأغلبها خطأ ومضلل. أهم مؤهلاته تأكيد الموقف السياسي لأصحاب أو مموِّلي الشبكة التلفزيونية، أو تفصيل مداخلاته على مزاج المسؤولين عن المحطة، مهما بلغ تضليله للمشاهد أعلى مراحل الكوميديا.
لاحظت أيضًا أن صحافيي بث اللغة العربية يتغافلون عن الأخطاء «يصهينوا» (بالمصري الدارج). الـ«بي بي سي» الإنجليزية معروفة بدقتها، بينما مشكوك في شرعية شقيقتها العربية بجينات من العالم الافتراضي للشبكات العربية.
في «بي بي سي العربية» اتهم أحد بروفسورات «الإفتاء في كل الأمور» رئيسة الوزراء تيريزا ماي بالتهرب من الانتخابات. توقعت من المذيعة أن تصحح معلومات «الخبير»، من موقع برلمان وستمنستر المجاني، باستحالة إجراء انتخابات في بريطانيا قبل 2020 حسب قانون 2011 لتحديد الفترة البرلمانية بخمس سنوات. وإلغاء القانون يتطلب أغلبية الثلثين (433 صوتًا بينما للحكومة 329 فينقصها 114 صوتًا) ويستحيل أن توافق المعارضة العمالية، لأنها ستخسر المزيد، حسب استطلاعات رأي أجرتها «بي بي سي» نفسها. اضطررت للشرح بدبلوماسية غير مباشرة لتجنب إحراج المشاركين في بث مباشر، بينما في أي محطة بلغة إنجليزية يكمل المذيع المعلومات الناقصة، ويصحح الأخطاء؛ فتضليل المشاهد خطيئة لا تُغتفر.
ورغم عدم الملامسة، فقد انتقلت عدوى الجهل بالمعلومة (وهي وراء ظاهرة السيد الخبير الذي يفهم في كل شيء) بصريًا وسمعيًا من الصحافيين وخبراء الفهلوة للمشاهدين المصريين والعرب، مثلما اكتشفت من تعليقاتهم على «يوتيوب» على مداخلتي في «الجزيرة» القطرية، قبل عامين، مع مشارك إخواني، سألني المذيع عن صحافيين مقبوض عليهم يُحاكَمون في القاهرة. وأجبت بعقلية إنجليزية في حدود القانون وخبرة المهنة ولوائح اتحاد الصحافيين البريطاني كعضو فيه منذ 1966 (معد البرنامج لم يرسل ما طلبته من معلوماتcharge details، أي صحيفة التهم الموجَّهَة، وتحت أي قانون، وملابسات الاحتجاز: إذا كان لأداء مهنتهم، فغير مقبول، وإذا كان لخرق القانون فلا فرق بين الصحافي وأي مواطن. وضربت مثلاً بمحاكمة عشرات من صحافيي بريطانيا بتهم جنائية للتنصت على رسائل صوتية بلا إذن أصحابها. وكررت أن عدم توفير المعد للمعلومات عن قضية جنائية في مصر يضيق مساحة التعليق من لندن، وتعليق صحافي على قضية منظورة أمام المحاكم يخرق لوائح اتحاد الصحافيين البريطانيين، والأخطر مخالفة قانون المحاكم في إنجلترا وويلز الذي يمنع التعليق صحافيًا على قضايا منظورة أمام المحاكم، فالقانون يجعل ارتكاب مخالفة تعاقب عليها القوانين البريطانية مخالفة قانونية محليًا وعالميًا).
باستثناء تفهُّم بعض العرب المقيمين في أوروبا لتحديد القوانين حريتي في التعليق، فإن معظم تعليقات المصريين والعرب على أدائي تشير لانتقال عدوى خبراء الجهل إلى المتفرجين.
اتهمت بـ«افتقاري للمبادئ». وبالفهلوة التي فازت ببطولة العالم في النكتة اللفظية، وخسرت في بقية مجالات النشاط الإنساني، وُصفت بأني «شاهد ماشفش حاجة» هبط «من عالم آخر».
ولو كنت أفتيت (بلا معلومات متاحة) مطالبًا بالإفراج عن الصحافيين «الأبرياء» من سجون «الاضطهاد»، أو عكسها بسجن مؤيد «لمن يضمرون الشر للأمة المصرية»، لتدفق تسونامي التأييد والإعجاب «لفهلوة» ووعي وانتماء مفخرة الأمة: البروفسور، الدكتور، الأستاذ الخبير «إللي بيفهم في كل حاجة».