تصدي السعودية لـ«مهددات» الأمن العربي لا يقلل من مكانة مصر

 محمد المختار الفال

بغض النظر عن اتساع مساحة «المشاعر» الحاضنة للتاريخ والروابط الاجتماعية والتداخل الثقافي والمنافع الاقتصادية المتصلة على مر العهود، فإن الظروف المحيطة بالمنطقة العربية والمصالح الأمنية للسعودية ومصر تقتضي اليقظة والعمل على «إفشال» كل المحاولات الساعية إلى إفساد العلاقات بين البلدين الكبيرين، فهناك «قواسم مشتركة» تجاه ملفات ساخنة تمس البلدين، ولا خلاف في ضرورة مواجهتها وتنسيق الجهود لتقليل أخطارها. ومنها؛ الموقف من خطر الإرهاب والأفكار المغذية له وضرورة العمل المشترك لمواجهة أخطارهما. ومنها أن البلدين لهما موقف متسق منسجم وواضح من حركات «الإسلام السياسي»، فهما يعارضان «تمكينها» في كل دول المنطقة، وهو موقف مبدئي استراتيجي وليس موقفاً «تكتيكياً» أملته الظروف، لقناعة البلدين بأن تولي هذه الحركات السلطة، في أي بلد عربي، يشكل تحدياً ضد الاستقرار السياسي والمجتمعي. كما أن البلدين يتعرضان لضغوط اقتصادية وعسكرية وسياسية لـ«تليين» موقفهما تجاه كثير من القضايا المؤثرة في الأمن. ثم إن البلدين يشكلان «العمود الفقري» لمعنى التضامن العربي الذي يظل، على رغم الواقع المرير، أملاً لاستعادة القوة وتحصيل المناعة ضد التدخلات الخارجية، وركيزة أساسية في أمن المجتمعات وعدم تعطيل مسيرتها، إلى جانب أن البلدين لهما ثقلهما وحضورهما في المحيط الإسلامي ويلقيان تقدير واحترام شعوب المسلمين كافة.

هذه العوامل، وغيرها، تجعل التفريط في التكامل بين السعودية ومصر عملاً غير رشيد وسلوكاً غير سوي، يهدد الأمن الوطني لكليهما ويعرض الاستقرار الإقليمي للنزاعات، ومن هنا تصبح الأصوات الناعقة لإثارة النعرات أصواتاً «مضللة» ترتكب حماقات في حق نفسها أولاً وفي حق مصلحة العرب في عمومهم ثانياً. ولكن هذا الرأي المؤمن بأهمية تمتين الروابط بين البلدين والوقوف في وجه كل من يحاول الإساءة إليها أو «التشويش» على قوتها بالنفخ «لحظات الغضب» لا يمنع من الحديث، بقدر كبير من الوضوح والصراحة، عن تباين وجهات النظر في «قضايا أساسية» ويدعو إلى «المكاشفة» حول تقدير الأخطار الناتجة منها، ولا مانع، بل من الضروري تحديد مسؤولية كل طرف والدور المطلوب منه، ومن المفيد أن «يحاسب»، في إطار الإيمان بالشراكة الحقة، المقصر أو المستهين بالخطر الواقع على أحد الطرفين.

ومن قبيل الوضوح والمصارحة أن يدرك الأشقاء في مصر أن السعودية ودول مجلس التعاون يتهددها التمدد الإيراني في العراق وسورية ولبنان، ومحاولتها تمكين حليفها الحوثي في اليمن. وهو تهديد حقيقي لا تخفى أبعاده على المنصف المتابع للسياسة الإيرانية منذ عقود، وليس مقبولاً، في هذه الحال، من طرف عربي بحجم مصر وأهميتها، الاستهانة بتقدير هذا الخطر أو «التهاون» في العمل على إيقافه. وبخاصة أن السعودية، مع أشقائها في دول مجلس التعاون وغيرهم، بذلت كثيراً من الجهد والمساعي الدالة على حسن النية لإقناع نظام طهران بأن تدخله في القضايا الداخلية العربية يفسد مقتضيات حسن الجوار ويهدد السلم الاجتماعي والاستقرار السياسي، ويفتح أبواباً يصعب إغلاقها، لأنه يخلق ذرائع تسهل التدخلات الخارجية لمزيد من استنزاف الثروات وتجويع الشعوب وزرع الفتن بينها، بعد أن كانت، خلال مئات السنين، تتعايش باختلافاتها الدينية والطائفية والعرقية، ولم تعرف هذا «الاحتراب والتناحر» قبل توظيف «الدين» لتحقيق الأطماع السياسية.

وفي هذه المرحلة من مواجهة «المشروع الإيراني» الساعي إلى «الهيمنة» على المنطقة العربية، ليس من المنطقي ولا مما تقتضيه المصالح العليا أن تبقى المواقف المصيرية في منطقة «ضبابية» تسمح بإجهاض المساعي وتفريغ الخطط من تأثيرها. وبكلام أوضح نقول: إن الاختلافات بين الشركاء الحقيقيين، في لحظات «التأزم» لحلحة عقد القضايا الساخنة، تهدر الطاقات وتهبط العزائم ولا تساعد في تجاوز المنعطفات الحرجة. ومن ذلك ما يجري الآن من حراك، على أكثر من جبهة لمعالجة «المأساة» السورية، ففي الوقت الذي ترى السعودية وأصدقاء الشعب السوري أن القضية يجب أن تحل بما يحقق مصلحة السوريين، الذين شردوا وقتلوا ودمرت مدنهم، مع المحافظة على وحدة أرضهم وقيام نظام يشترك فيه كل السوريين، وقبل كل ذلك إيقاف المجازر الوحشية في حلب، في هذا الوقت يقف أنصار نظام بشار ضد هذا التوجه لأنه لا يخدم «مشروع الهيمنة» الإيراني. ومن غير المقبول، أو حتى المفهوم، أن يعارض أي عربي السياسة والجهود الرامية إلى «قطع الجسر» الممتد من طهران إلى الضاحية الجنوبية في بيروت.

كيف يمكن أن يتفهم السياسي والمثقف والشارع العربي الموقف المتهاون في تقدير خطر «التمدد» الإيراني في الخريطة العربية؟ وهل يتصور عاقل أن نظام طهران ينفق ثروة الشعب الإيراني من أجل المحافظة على الدولة السورية والمحافظة على وحدة أراضيها، كما يحاول البعض أن يوهمنا أو يخدعنا؟ هذا عبث لا يليق «تسويقه»، والمماحكة في إثباته وتأييده ترقى إلى مستوى « الابتزاز».

لقد بات واضحاً أن إيران عزلت بغداد عن الإرادة العربية، وهي مندفعة لاستكمال قبضتها على هذا البلد العربي الركيزة، بالاستيلاء على الموصل وتحكيم ميليشيا الحشد الشعبي، الذي لا يقل رعونة ووحشية عن التنظيم الإرهابي «داعش»، في مصير أكثر من ثلاثة ملايين عربي سني، وهي عازمة على إحكام قبضتها على سورية، من خلال تثبيت نظام مرفوض من السوريين، حتى وإن وقفت وراءه دولة كبرى مثل روسيا، في إطار لعبة المصالح وصراع النفوذ في ظل «التراجع» الأميركي وحال الارتخاء التي أصابت مفاصل القرار في واشنطن، بعد موجات «الفشل» في أفغانستان والعراق وسياسة أوباما التي جاءت به إلى البيت الأبيض، والوعود بإيقاف «نعوش» الجنود الأميركيين الذين اتسمت بهم فترة حكم جورج بوش الابن.

والموقف الروسي مفهوم وواضح، والتعامل معه يسير وفق القنوات الممكنة، لكن الموقف المصري من نظام بشار يحتاج إلى مراجعة، كي لا يتناقض مع الخطاب المعلن بالدفاع عن مصالح العرب. مصر لديها مصالح مع روسيا، وهذا مفهوم، كما أن السعودية لها مصالح معها، ولكن توحيد المواقف تجاه الأولويات هو ما يحدد خطوط التقارب والتباعد بين الحلفاء.

كلمة أخيرة لا بد من قولها وتأكيدها: تصدي السعودية للدفاع عن الأمن العربي لا يلغي مكانة مصر وأهميتها المحورية في هذا الملف الحيوي، فلا يتورط البعض في هذا الوهــــم ويجعلوا منه ذريعة للإساءة.