ولادة «بلفور» من رحم «بيكو»

عبدالله العوضي

أكثر من مئة عام والعرب يتجرعون من كأس «سايكس- بيكو» ولم ينالوا سوى خداع وخيانة بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية التي تحولت إلى ثورة شيوعية فضحت هذا السر المكنون.

تركت الدولة العثمانية التي انهارت في 1918 تناوشتها يد الاستعمار الفرنسي والبريطاني بامتياز ولم ينل العرب درجة المقبول في هذا الاختبار السياسي الذي رسبت فيه كل الدول العربية التي وقفت مع الحلفاء ضد الطرف الآخر وهو ألمانيا ومن معها، فلم يف الاستعمار المزدوج بوعده في جعل الشريف حسين ملكاً للعرب بعد تخليهم جميعاً عن مظلة الدولة العثمانية للحصول على شرف الاستقلال الذاتي والوطني.

فكل أطراف هذه الاتفاقية نالت الجائزة الكبرى إلا العرب الذين قسموا على رقم صعب لا يقبل القسمة، فقد رضوا بالخروج من العباءة العثمانية إلى ما نصت عليه «سايكس- بيكو» من تقسيم الشام إلى ثلاث مناطق:

أ- الزرقاء وهي العراق وتخضع للإدارة البريطانية.

ب- الحمراء وهي سوريا وتخضع للسيادة الفرنسية.

ج- السمراء (فلسطين) تخضع لإدارة دولية ويأتي ذلك كمقدمة لتسليم فلسطين لليهود.

ونقرأ في المادة الثانية عشرة ما يلي:

معاهدة «سايكس- بيكو» هي الجزء الخاص التنفيذي لمعاهدة بطرسبيرج التي عقدت بين بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية خلال مارس سنة 1916 وقسمت فيها أملاك الإمبراطورية العثمانية التركية وكانت أهم مبادئ هذه المعاهدة هي:

1- تمنح روسيا الولايات التركية الشمالية والشرقية.

2- تمنح بريطانيا وفرنسا الولايات العربية في الإمبراطورية التركية (موضوع معاهدة حسين- مكماهون).

3- تدويل الأماكن المقدسة في فلسطين وتأمين حرية الحج إليها وتسهيل سائر السبل اللازمة للوصول إليها وحماية الحجاج من كل اعتداء.

ولم يحتج على هذه المعاهدة إلا زعماء الصهاينة لدى الحكومة البريطانية، على أساس أن تدويل فلسطين يتنافى وفكرة الوطن القومي اليهودي، فأكدت لهم أن التدويل هو مجرد خطوة مرحلية تكتيكية أملاها موقف فرنسا وروسيا، اللتين كانت لهما مطامع عديدة أيضاً في فلسطين، وأنها أي بريطانيا ستعمل لإلغائه، الأمر الذي أكده فعلاً صدور تصريح بلفور حتى نهاية الحرب، وهكذا ولدت إسرائيل من رحم هذه الاتفاقية فنالت الجائزة الأكبر على مدار التاريخ الإنساني!

اليوم بعد هذا القرن الذي مرّ عصيباً على الأمة العربية فقد انضم إلى هذه الاتفاقية الخائنة للعرب وقضاياهم، عامل التقسيم الأعظم مما مرّ في كل بنود تلك الاتفاقية الظالمة لكل العرب.

تبدو الحدود التي رسمتها تلك الاتفاقية، والتي تم بموجبها إنشاء دول الشرق الأوسط، الآن وقد دخلت مرحلة التبدلات والتحولات التي غذتها نظرية «رايس» في «الفوضى الخلاقة»، فالعراق يراد له أن ينقسم إلى ثلاث دول، للسنة دولة الموصل والشيعة دولة بغداد والأكراد دولة كردستان، فقد صرح رئيس إقليم كردستان العراقي، مسعود برزاني، الذي يتمتع بحكم ذاتي في مقابلة مع «بي بي سي»: لست وحدي من يقول بذلك، ففي الحقيقة أن «سايكس- بيكو» فشلت وانتهت. وأضاف أن «هناك حاجة إلى تشكيل جديد للمنطقة، أنا متفائل للغاية بأنه من خلال ذلك التشكيل الجديد سيحقق الأكراد مطلبهم التاريخي وحقهم (في الاستقلال)».

ودخول الإرهاب «الداعشي» على هذا الخط فاقم الأمور، وقد أعلن مسلحو هذا التنظيم، الذين أزالوا الحدود بين العراق وسوريا في يونيو عام 2014، إلغاء «سايكس- بيكو» إلى الأبد.

إن ما يخطط للعرب علناً أخطر من «سايكس- بيكو» بدرجات، لأن ما يدور في سوريا والعراق واليمن وليبيا وما جرى في لبنان والصومال وما كاد يحدث في تونس وما تم استدراكه في مصر، مؤشرات مرعبة على تقسيم المقسم وتفتيت المفتت وتشتيت المشتت بصور أكثر مأساوية وكارثية.

فإذا نجح الجزء الثاني غير المكتوب من هذه الاتفاقية في الوصول إلى أهدافها المعلنة، بعد أن كان الأول سرياً إلى حين فضح روسيا السوفييتية له من أجل الحصول على كعكتها، فإن كرة النار لا تحرق القشة الهشة في هذه المرة، بل البنيان الصلب للعروبة والإسلام في وقت واحد، وساعتها لا تجدي النداءات الإنسانية الخارجة من أحياء حلب الأسيرة والموصل المقطوعة عن كل شيء، إلا من أصحاب الأجندات الواضحة والمؤامرات المكشوفة عبر مراكز الأبحاث العلمية المعروفة.