عندما تعطل الديموقراطية السلام

محمد السماك

مُنحت جائزة نوبل للسلام هذا العام للرئيس الكولومبي خوان مانويل سانتوس. غير أن الإنجاز التاريخي الذي كان وراء منحه الجائزة، رفضه الشعب الكولومبي في استفتاء عام، وبالتالي فإن السلام الذي حاز الرئيس سانتوس على الجائزة بسببه، لم يتحقق، بل إنه مرفوض من أكثرية الشعب في كولومبيا، وهذه المفارقة تدعو إلى طرح علامة استفهام كبيرة حول ما إذا كانت الديموقراطية هي فعلاً المقياس الأمثل والوحيد لاتخاذ القرار؟

لقد عمل الرئيس الكولومبي طوال خمس سنوات من المفاوضات الشاقة مع الحركة اليسارية الستالينية الإرهابية «فارك» من أجل التوصل إلى تسوية سياسية معها، وبموجب هذه التسوية تتخلى الحركة عن سلاحها، وعن كل الأعمال غير المشروعة التي كانت تقوم بها، بما في ذلك التجارة بالمخدرات، وخطف المزارعين وتجنيد الأولاد واغتيال المسؤولين ورجال الأمن.. الخ.

إن قضية مهمة في مستوى سلام أهلي أو حرب عصابات أهلية مستمرة عانى منها المواطنون في كولومبيا على مدى 52 عاماً، لاقت رد الفعل الهزيل الذي يتمثل في نتائج الاستفتاء الديموقراطي، فمن قالوا لا للتسوية، يزيد عددهم عمن أيدوا التسوية بحوالي 54 ألف صوت فقط، فهل يعقل أن يقرر 54 ألف معارض، إضافة إلى 20 مليون مقاطع للاستفتاء، إسقاط اتفاق ينهي صراعاً مسلحاً دام أكثر من نصف قرن؟

وهل الاحتكام إلى الديموقراطية هو الأسلوب الوحيد الذي يعبر في نتيجته عن المصلحة الوطنية العليا للدولة وللمواطنين؟ أي هل الديموقراطية هي الوسيلة «المقدسة» والوحيدة لاتخاذ القرارات الوطنية الكبرى، أم أن هناك وسائل أخرى تتمثل في حكمة الحاكم وبعْد نظره وفي قدرته على رؤية المستقبل والتخطيط له تبرر تجاوز بعض الإجراءات التي تقتضيها الشكليات الديموقراطية من أجل التعبير عن المصلحة العامة والعليا للدولة؟

لقد أثبتت التجربة الكولومبية أن الديموقراطية لم تكن الأداة الصالحة للتعبير الصحيح عن الموقف الصحيح. بمعنى أنه ليس صحيحاً أن أقل من 20 في المئة من المقترعين في كولومبيا هم على حق، وأن المجتمع الدولي ممثلاً هذه المرة بلجنة نوبل للسلام، على خطأ. وتعزز ذلك الدراسة التي أجريت في كولومبيا ذاتها حول المناطق من البلاد المؤيدة، وتلك المعارضة لمشروع التسوية السلمية.

وتبين هذه الدراسة أن المناطق كانت الأشد تضرراً من أعمال حركة «فارك» الإرهابية هي التي قالت نعم للتسوية، ومنها مثلاً مدنية «يوجا فار» التي شهدت في عام 2002 مجزرة كبيرة على يد أعضاء «فارك»، أدت إلى مقتل أكثر من مئة شخص كانوا يؤدون الصلاة يوم الأحد في كنيسة المدينة.

وتتألف كولومبيا من 81 مقاطعة، ضرب الإرهاب على مدى نصف قرن الماضي 67 مقاطعة منها، وهذه المقاطعات التي نكبت بالأعمال الإرهابية هي التي أيدت التسوية، لأنها تتطلع إلى السلام وإلى الخلاص من الفوضى والفساد والإرهاب. ولكن نسبة الأصوات فيها لم تشكل الأغلبية المطلقة المطلوبة، فهل يعني ذلك أن التسوية ليست في مصلحة الدولة والشعب، وأنها بالتالي يجب أن تسقط؟

يواجه الناس أحياناً قضايا كبرى يحكمون عليها إما بالعاطفة الثائرة -تقديم الثأر على السلام- أو بالاستخفاف –المقاطعة، وكان هناك في كولومبيا من يريد الانتقام من أعضاء حركة «فارك». وكان هناك من استخف بالاتفاق معها، غير أن رجل الدولة لديه حسابات أخرى تتجاوز العاطفة والاستخفاف معاً، وتقوم على ممارسة قدر عالٍ من الجرأة في قيادة سفينة الوطن عبر الأمواج العاتية عندما يتراءى له برّ الأمان والسلام خلف هذه الأمواج، وهذا ما بدا أن الرئيس الكولومبي قد أدركه ومارسه.

في الأساس ما كان الرئيس سانتوس مضطراً إلى إجراء استفتاء حول التسوية. كان بإمكانه أن يجعل منه اتفاقاً بين الحكومة والحركة، ولكنه أراد أن يحرج خصومه السياسيين بحملهم على التصويت بنعم على مشروع هو صاحبه.. فوقع في شباك الجانب السيئ من شكليات وإشكاليات الديموقراطية، فوقع الجوهر، وهو التسوية السلمية، ضحية الشكل، وهو الاستفتاء.

كان الهدف من وراء الاتفاق بين الرئيس الكولومبي وحركة «فارك» طي صفحة نصف قرن من الحرب الداخلية ذهب ضحيتها عشرات الآلاف من الضحايا. ولذلك استحق جائزة نوبل للسلام. ليس بسبب حسن نواياه فقط، ولكن لأنه تمكن من ترجمة هذه النوايا إلى اتفاق، ولأنه ترجم الاتفاق إلى إلزام للحركة، مما يفتح أمام كولومبيا أفقاً جديداً لمستقبل أفضل، غير أن الوسيلة التي استخدمها لإقرار هذا الاتفاق، لم تراعِ طبيعة المجتمع الكولومبي الذي قاطع عن استخفاف أو إهمال أو عدم إدراك بنسبة 60 في المئة الاستفتاء العام.

ربما لو كان الاقتراع واجباً وليس حقاً فقط لتغيرت النتيجة. أما الآن فإن الرئيس الكولومبي سيحصل على جائزة نوبل لسلام لم يتحقق، ولكن على أمل أن تؤدي صدمة الاستفتاء الديموقراطي إلى إجراء استفتاء ثانٍ يقوم على أساس أن النتيجة –السلام- أهم من الوسيلة –الديموقراطية، وأن الوفاق أهم من الانتقام.