عادل درويش 

 الحملة الانتخابية الرئاسية الأميركية في غرابتها تذكرني بأقدم كوميديا سياسية للإغريقي أريسطوفانيس (446 - 368 ق.م) التي شهد المسرح المصري ترجمات بعض منها (في زمن ما قبل الجاهلية الثقافية التي حلت بمصر)، كـ«الضفادع»، و«السحاب»، و«مجلس النساء».

في مسرحيته الرابعة «الفرسان» التي فاز بها أريسطوفانيس بجائزة أفضل عمل مسرحي في 424 ق.م، في أوج الديمقراطية الأثينية، كانت سخريته لاذعة من الزعيم كليون Cleon (عامان قبل موت الأخير في مقدونيا في 422 ق.م، وكان قد فرض رقابة على أعمال فنانين معارضين). ورغم أصوله الأرستقراطية وتاريخه العسكري، صعد كليون على موجة من الديماغوجية بإثارة النزعة الوطنية بمعارضته لسياسة السلام التي انتهجها سابقه بيركليز (495 - 429 ق.م).
في المسرحية، أقنع فارسان بائع سجق جاهلاً عالي الصوت بالترشح للبرلمان (خداع الزبائن بتطييب مذاق طعام فاسد، والربح من مضاعفة الثمن الحقيقي، مهارة يحتاج إليها السياسي الناجح أكثر من التعليم الجامعي)، ويفوز بديماغوجيته، ويصبح زعيمًا. شخصيات أريسطوفانيس رمزية؛ «ديموس» (الشعب) وخادماه «ديموسينيث» و«نيقياس» (الحكمة والذكاء) وشخصيتان صامتتان (اسماهما معاهدتا السلام).
شخصيات عمرها 24 قرنًا تقفز إلى مخيلتي، كلما تابعت سباق الرئاسة الأميركية. شخصنة الجدل بين المرشحين أعطته الطابع الدرامي، بمفردات ومواقف كوميدية.
تركزت مناظرات المرشحين على الهجوم الشخصي أكثر منها على مشاريع سياسية بالسلبيات، ولا ذكر تقريبًا للإيجابيات، وتخويف الناخب من المرشح الآخر. لم يقدم المرشح الجمهوري دونالد ترامب سياسة بديلة، ولم تبرر المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون سياسات الإدارة الحالية، وما يعود على الناخب من الاستمرار فيها.
القوى الخفية التي ترسم استراتيجية المرشحين، والدور الذي لعبته المؤسسات الصحافية الكبرى، وكلها تقريبًا مع هيلاري كلينتون في حملة لتشويه سمعة المرشح الجمهوري، تعكس شخصيات «فرسان» أريسطوفانيس، لكن تتبدل الأدوار عدة مرات بين كلينتون وترامب. من هو بائع الطعام الفاسد؟ ومن هما الفارسان؟
الجمهوري ترامب تاجر همه الأرباح والتجارة ولم نختبره سياسيًا، كل ما نعرف عنه تصريحاته النارية التي زادت من شعبيته.
من الناحية العملية، رجل أعمال له شركات وصفقات كثيرة في أنحاء العالم، خلق عشرات الأعمال من الوظائف لأرباب أسر، موظفوه شاكرون، ومن فصلهم حانقون عليه.
السيدة كلينتون سياسية محترفة، هي وزوجها في مؤسسة كلينتون لا يقيمون مشاريع تسترزق منها الناس - أي اقتصاديًا طفيليان.
العالم والأميركيون اختبروا سياسات السيدة كلينتون كوزيرة خارجية إدارة أوباما.
«ويكيليكس» تسرب أوراق الإدارة السرية، فكشفت الكثير عن تجاوزات، البعض يعتبرها تقصيرًا وإهمالاً كبيرًا في مصالح الوطن، والآخر يعتبرها فسادًا.
الوثائق تشير إلى أن سياسة الخارجية الأميركية عندما تولتها هيلاري كانت تدعم الإخوان المسلمين، كجزء من استراتيجية فرض ما تراه إسلامًا سياسيًا معتدلاً، كقوة موحدة hegemony تسيطر على المنطقة العربية، ويمكن التعامل معها. كما فوضت المخابرات المركزية لدعم جماعات إسلامية ومجموعات إرهابية (رغم تحذير وكالات أخرى في الإدارة) في ليبيا تمردت على سادتها، وأحرقت السفارة وقتلت السفير الأميركي كريس ستيفنس، وهو موضوع الرسائل الإلكترونية التي استخدمت السيدة كلينتون بريدها الخاص (الذي نجحت في محوه وشطبه)، وليس بريد وزارة الخارجية الرسمي (الذي لا يمكن شطبه).
وفي الظروف العادية، وبسجل إدارة أوباما والسيدة كلينتون، كان يفترض أن يتقدم المرشح الجمهوري، أو على الأقل يتساوى في النقاط معها، فما السبب في عكس الآية، خصوصًا أن أي متابع للرأي العام الأميركي يعرف مدى الكراهية التي يحملها المواطن الأميركي لهيلاري وآل كلينتون؟
أول الأسباب الصحافة بكل أشكالها تحشد كل قواها ضد ترامب. البعض يرى أن كلينتون رغم أنها أسوأ مرشح ديمقراطي في الذاكرة، فهي أقل خطرًا من ترامب الذي يعتقد البعض أنه لا يمكن التكهن بأفعاله.
السبب الحقيقي أنه ليس من المؤسسة الحاكمة (أي أنه ليس واحدًا منا، محدث نعمة غير جدير بالرئاسة).
قبل 39 عامًا، كانت معظم الصحافة ضد الممثل رونالد ريغان، لكنه لقي تأييد كثيرين.. كان من المؤسسة كحاكم لولاية كاليفورنيا.
الصحافة (خصوصًا التلفزيونية) احتفظت بمعلومات عن ادعاءات نساء بأن ترامب تحرش بهن، أو ارتكب أفعالاً فاضحة معهن، ولو نشرتها مبكرًا لما أصبح مرشح الجمهوريين، لكنها انتظرت ليصب الإضرار بسمعته في صالح المرشح الديمقراطي (ناهيك بسكوت متهماته لسنوات طويلة في بلد يستطيع فيه المحامون أن يجعلهن مليونيرات من التعويض، إذا رفعن القضية، ولم تشكُه واحدة منهن).
بعد هذه الادعاءات، لم تتأثر شعبيته بين مؤيديه بالقدر الذي تمنته الصحافة. فالناس تحاكمه بمعايير أقل قسوة من محاسبة السياسيين، إذ يرونه مواطنًا عاديًا، وليس من «المؤسسة» التي يقود ترامب التمرد الشعبي ضدها.
ترامب أول مرشح للرئاسة ليس سياسيًا منتخبًا كسيناتور أو رجل كونغرس أو حاكم ولاية سابق أو ضابط جيش متقاعد.
وهو مثل جيرمي كوربين، زعيم حزب العمال البريطاني، الذي ثار نواب الحزب ضده، وحاولوا إزاحته مرتين، لكن القواعد الشعبية كررت انتخابه، زعيم حركة تمرد ضد المؤسسة الحاكمة (قطاع كبير من الطبقات الفقيرة في بريطانيا التي صوتت بالخروج من الاتحاد الأوروبي كانت حركة تمرد على المؤسسة).
ترامب لم يستطع أن يوجه الطعنة السياسية القاتلة إلى كعب أخيل هيلاري كلينتون (مسحها البريد الإلكتروني بمعلومات خطيرة) لأنه مثل البريطاني كوربين لم يكن يعتقد في قلبه أنه سيصل لهذه المرحلة، بل كل مناظراته استمرار في تمرد الهجوم على المؤسسة الحاكمة.
من أسباب تراجع تأييده في استطلاعات الرأي إخفاق الحزب الجمهوري في التعامل مع المتغيرات الديموغرافية في أصوات الناخبين الأميركيين. فسنويًا، يخرج من سجلات الناخبين كبار السن الذين يغادرون الحياة، وهم عادة محافظون يصوتون تقليديًا للجمهوريين. وفي المقابل، يدخل سجلات الناخبين ضعف عددهم من المهاجرين الجدد، 80 في المائة منهم من بلدان أميركا اللاتينية التي ضخمت الصحافة من سياسة ترامب ضدهم، على أنه يريد ترحيلهم من البلاد.
وإذا لم يتعامل الجمهوريون مع المتغير الديموغرافي، ويطوروا خطاب التعامل مع اللاتينيين المهاجرين، فستتناقص فرصتهم في الوصول للبيت الأبيض في السنوات المقبلة.
لكن قد تحدث المفاجأة، رغم تجمع العوامل ضد ترامب، فهناك عامل الـcomplacency، أي اطمئنان مؤيدي كلينتون لفوزها، كحكاية سباق السلحفاة والأرنب، ويتكاسلون عن التصويت، بينما تحرك ثورة الغضب على المؤسسة الملايين للتصويت، وربما لم تحسب مؤسسات استطلاع الرأي أصواتهم أصلاً، ويفوز بائع السجق بالزعامة، فلا جديد تحت شمس الكوميديا السياسية.