صالح زياد

سجون الفكر باعتباراتها المختلفة، تشبه كهف أفلاطون، لا يراها الفكر السجين فيها إلا بعد أن يخرج منها. ولأنها كذلك فلا أحد يدخل إليها مرغما، مثلما لا يدخل إليها أحد واعيا بأنها سجن

مفهوم "السجن" ومرادفاته ومجازاته، نموذج وصفي بالغ الأهمية في الرؤية إلى الفكر الإنساني -علماً وثقافة- سواء من جهة التشخيص لحركته ونموه وتطوره، بوصفه في كل لحظة من لحظاته تلك، منعتقاً من قفص، وخارجاً من سجن، ومتحرراً من قيد، ومبصراً بعد عمى، أم من جهة الأهمية التي تتصل بامتلاكه الرغبة في النمو والدافع إلى الحركة والتطور والتغير والانتقال، لأن الأحرى أنه يفقد مسمى الفكر حين يسكن ويجمد ويفقد صفات التجدد المستمر.
كان أفلاطون في فلسفته التي فتحت في لحظتها أسئلة فكر جديد عن الحقيقة والخير والمُثُل، سجناً للفكر الإنساني، يشبه تماماً الكهف الذي شبَّه به أفلاطون نفسه عالم الواقع والإدراك للحقيقة. فالأشخاص الذين فُرِض عليهم في هذا الكهف منذ ولادتهم ألا يلتفتوا إلى فتحة الكهف باتجاه النور من خلفهم، لا يرون إلا ظلال الأشياء أمامهم. وهذه لدى أفلاطون حالة أغلب البشر التي يدافعون عنها باستماتة لأنهم يعتقدون أنها الحقيقة والواقع. أما هو فإن الحقائق والفضائل لديه في عالم المُثُل، وهو عالم الثبات والأزلية الذي يريد للعقل أن يحتذيه في نظره للواقع المتغير. ولهذا استدل شراح أفلاطون بذلك على رغبته في إيقاف التغير، وحَمْلته على الحركة والصيرورة.
وإذا كان أرسطو قد نجا من فكرة أستاذه أفلاطون عن عالم المُثل، وخرج من سجنها إلى عالم الواقع، فإن المنطق الصوري الذي عرفه العالم منسوباً إليه، آلةً للعلم وأداة للمعرفة الصحيحة، طوال العصور الوسطى، أخذ يتكشَّف منذ القرن السادس عشر الميلادي، في صورة سجن أعاق الفكر وأعقم المعرفة الإنسانية. فنتائجه متضمنة في المقدمات، ومن ثم فهي تحصيل حاصل، وليست نتائج جديدة. وثار عليه من هذه الوجهة فرنسيس بيكون وجاليليو وهيوم وجون ستيوارت مل، مستبدلين به المنهج التجريبي والمنطق الاستقرائي.
وليست أوهام العقل الإنساني التي وصفها فرانسيس بيكون في كتابه "الأورجانون الجديد" سوى سجون متضاعفة تحجز الوعي الإنساني، وتضلل إنتاجه للمعرفة، وتقيِّد حركته. وأولها "أوهام القبيلة" وهي الأوهام الطبيعية في البشر كلهم، وتتعلق بتحيزاتهم، وانطباعاتهم، وبداهاتهم، وعجز حواسهم. والثانية: "أوهام الكهف" وتأتي من الطبيعة الخاصة بكل فرد وثقافته وظروفه. والثالثة "أوهام السوق" وهي ناشئة عن خطأ التفاهم باللغة. والرابعة: "أوهام المسرح" وتنتج عن القناعة والتمسك بنظريات وقواعد سابقة مغلوطة، ومعتقدات خرافية.
أما سجن الفكر لدى جاستون باشلار فنراه لديه في لحظة وصول الفكر إلى "الحقيقة" الذي لا يحدث بالتطلع إلى الأمام، وإنما بالنظر إلى الخلف، محاسبةً للنفس ومراجعة لها. إن لحظة انعتاق الحقيقة هذه، والارتحال إلى فكر جديد، هي لدى باشلار ناتج التصحيح لخطأ، وأن ينتُج الفكر عن تصحيح أخطاء يعني أنه -دائماً- لا يبدأ من الصفر، ولا يبني في فراغ. وهذا منظور نرى عبره سجن البداهات والمسلمات والقناعات والموازين، في لحظة تحولها في منظور الفكر الجديد إلى أخطاء، وكيف كانت حجابا يحجز النظر، ويقيد البصيرة، ويحول دون تجدد المعرفة وتطورها.
ولعل آخر ما تكشفت عنه الفلسفة الغربية من سجون الفكر وأقفاص النظر، السجن الذي يمثله، من وجهة نظر التفكيكية وما بعد البنيوية، الفكر الإنساني بكل أنظمته وتجلياته منذ أفلاطون وحتى هوسرل. فهو سجن لأن كل الأنظمة الفكرية فيه مجتمعة على هيمنة المدلول في اللغة وشفافيتها والحضور التام لمقاصدنا من التعبير وثبات المعنى. وكان في برهنة التفكيكية على مجازية اللغة واحتوائها لفهمنا ورؤيتنا وكينونتنا ومن ثم تعدد زوايا النظر والمعنى، تحرر للرؤية النقدية للخطابات بما مكنها وأكد على دورها في الكشف عن الأيديولوجيات والتحيزات وأشكال التسلط التي لا يبرأ منها خطاب بشري. وهو المنظور الذي أفسح لمفاهيم الاختلاف والتعدد التي يكاد يستخدمها الجميع، في أيامنا هذه، في محاجة الاستبداد والتسلط، كلٌّ من وجهته، لكن -غالباً مع الأسف- من دون أن يرى استبداده هو، أو يرى اختلافه عن غيره ويطالب به، لكن من دون أن يرى اختلافه في ذاته وتعدد أحاديته.
وأحسب أن القراءة المتدبرة للقرآن الكريم، ستقف بنا على عدد من سجون الفكر الإنساني، وعلى دعوة القرآن إلى التحرر منها كي يعقل ويعي. فالحث على التفكير في عديد الآيات القرآنية هو دلالة تحرير واستشراف لفاعلية الإنسان. والسخرية في القرآن من التعلق بميراث الآباء في عشر آيات، مثل قوله تعالى: "قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا" (المائدة: 104) هي دلالة على سجن التراث البشري للعقل. وليست المسؤولية الفردية في القرآن "كل امرئ بما كسب رهين" (الطور: 21)، أو حرية الإيمان "لا إكراه في الدين" (البقرة: 256) "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" (الكهف: 29) إلا دوال على الانعتاق للعقل والضمير من كل تسلط يمنع تفتحهما بوعي وإرادة واختيار. وهي دوال لا تنفصل في ما توجبه عن دلالة وصف القرآن لعمى القلوب "ولكن تعمى القلوب التي في الصدور" (الحج: 46) من حيث الدلالة بذلك على الإرادة المأسورة والوعي السجين.
إن أزمة واقعنا العربي هي أزمة فكر مسجون وثقافة مشلولة، أزمة فكر عاجز عن تحرير ذاته وثقافة مضطربة الوجهة. لم يتحرر فكرنا العربي من ثنائيات التراث والمعاصرة، ولا الإسلام والغرب، ولا الدين والدولة... الخ. وهذه الثنائيات التي تقسمنا وتبعثرنا شيعاً وأحزاباً متناحرة، ثنائيات مصطنعة، ثنائيات في الفكر لا في الواقع، وفي التصور لا في الحقيقة. ولذلك غدت سجناً يستهلك حياة الفكر، ويقف به في ما دون مرحلة الدولة والمعاصرة، وخارج كل حساب للعالم.
وإضافة إلى السجن الذي تصنعه هذه الثنائيات المتقاطبة، فإن فكرنا العربي يبدو كذلك سجين القطعيَّة والدوغمائية والأدلجة واللامساءلة. وإذا كان وهم الاكتمال والتفوق والريادة والسبق لدينا أحد السجون التي تحرِّم النقد والمساءلة في واقعنا، فإن وهم النقص والقصور والتخلف سجن آخر ذو صفة عدمية، يحجب الرؤية المتوازنة لواقعنا، وينتزع كل بارقة أمل. وغير هذا وذاك فإن الفكر العربي بمختلف تصنيفاته المتداولة بين أقطابه: التقليدي والحداثي، والظلامي والتنويري، والأصالي والتغريبي، والديني والمدني، والمتحصن في دائرة السلطة والمنتسب إلى صف المعارضة... وهلم جرا. هذا الفكر بما هو فكر نخبوي، تكويناً وانتساباً وتداولاً، سجين الاغتراب باعتبارات مختلفة، داخل المجتمع العربي وفي هذه اللحظة الزمنية الفارقة.
إن سجون الفكر باعتباراتها المختلفة، تشبه كهف أفلاطون، لا يراها الفكر السجين فيها إلا بعد أن يخرج منها. ولأنها كذلك فلا أحد يدخل إليها مرغماً، مثلما لا يدخل إليها أحد واعياً بأنها سجن أو راغباً في أن تكون كذلك. وعلى رغم ذلك فإن الإنسان، فرداً ومجتمعاً، هو من يصنع معظم تلك السجون، ويعيش ضيقها، وهو نفسه من يحطمها، ويثور عليها، ويخرج منها.