تركي الدخيل 

تمثّل مدينة الموصل، تاريخًا من التجارة والتعايش بين الشعوب عبر الحياة والمبايعات التجارية. كانت صلة وصل بين الإنسان والحياة، اشتهرت منذ العصر الإسلامي القديم، بكونها أهم مراكز الموسيقى في الدولتين الأموية والعباسية، فيها نشأ إسحاق الموصلي، وزرياب، ويُرَجَحُ أن الموشحات العربية نظمت فيها أول مرة متأثرة بموسيقى الكنيسة السريانية. عُرفت المدينة بالتسامح والتعايش، وبرز فيها كثير من المقرئين الذين برعوا في المقامات، وخصوصًا في أوائل القرن العشرين، أمثال الملا عثمان الموصلي، وأحمد عبد القادر الموصلي، وحنا بطرس، كما اشتهر الإخوة جميل، ومنير بشير، بعزف العود والمقامات. استوعبت الموصل الديانات من المسيحيين إلى المسلمين، مرورًا بالإيزيديين، وبها إرث عريق من الإنسانية والتعايش، أُريدَ له أن يُدمر.

كل ذلك التاريخ لم يحرس الموصل من دخول «داعش» إليها، وسط تخاذل من الحكومة العراقية وذلك في 6 يونيو (حزيران) 2014 في معركة قاسية، وباعتراف جنود الجيش العراقي، فإن قادتهم هربوا ولم يكونوا مُدرّبين بما يكفي، لصدّ هجوم «داعش». على أثر ذلك هُجِّر أهل الموصل قسريًا، وأنشأ «داعش» ديموغرافيةً جديدة مختلفة، وفرض نظامًا صارمًا يواجه من يخالفه بالقتل. حدث كل ذلك على مرأى من العالم ومن دون أي اعتراض، وكان المستفيد الأول من دخول تنظيم «داعش» هو النظام العراقي الطائفي، وعلى رأسه نوري المالكي رئيس الوزراء السابق. وحين أعلن أوباما عن معركة تحرير الموصل، كتبت «واشنطن بوست»: «إنه ليصعب التشكيك في أن الهجوم الذي يشنه عشرات الآلاف من الجنود العراقيين والميليشيات المختلفة المدعومة بغطاء جوي من التحالف الدولي من شأنه التغلب على تنظيم داعش في الموصل من الناحية العسكرية، ولكن التجارب السابقة في العراق كانت مؤلمة، إذ إن إلحاق الهزيمة بالتنظيم يعتمد على عوامل غير عسكرية، منها التكلفة البشرية والمادية ومدى اتباع ترتيبات سياسية قابلة للتطبيق».
يتشارك الأضداد في معركة الموصل، حيث تخوض تركيا، وإيران، والحشد الشعبي الطائفي، والبيشمركة، بدعم أميركي، حربًا هدفها سحق «داعش»، غير أن لكلٍ مغانمه التي يريد. تركيا تقود حملة استحقاقها لمهاجمة «داعش»، بغض النظر عن موقف النظام العراقي، وتعتبر ذلك قانونيًا، ذلك أنها طرف في التحالف الدولي ضد تنظيم داعش، وذلك يمنحها الحق في التدخل بمعركة الموصل، كما أنها تستند إلى قرار مجلس الأمن 2249، الصادر عام 2015، بوصفها متضررةً من «داعش»، هذا فضلاً عن مسوّغ اتفاقية أنقرة عام 1926، واتفاقية لوزان 1923، وذلك يعطي تركيا الحق كما تقول في التدخل القوي، وسط تصريحات ناريةٍ من النظام العراقي، وهو تدخّل تراه تركيا، مسألة أمنٍ قومي، لا يحقّ حتى للعبادي أن يناور حولها.
من الضروري أن يتحالف العالم كله من أجل دحر «داعش»، ومعركة الموصل قد تكسر من شوكة التنظيم المتطرف، وخصوصًا إذا تجاوزت المعارك التحويل الطائفي للحرب، أو التغيير الديموغرافي للمدينة، وهو تغيير قد حصل فعلاً، لكن حين نتحدث عن تهجير السنة بالذات، فإنه الموضوع الذي يعيدنا إلى هدف نوري المالكي، من تسهيل دخول «داعش» للموصل، وهذا ليس كلامًا عاطفيًا، فمنظمة العفو الدولية أعلنت أن «السنّة» في الموصل يواجهون انتقامًا وحشيًا من ميليشياتٍ طائفية، يعضد ذلك كلام مدير الأبحاث وأنشطة كسب التأييد في برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المنظمة، فيليب لوثر الذي اعتبر أن «السنة العرب في العراق يواجهون، عقب نجاتهم من أهوال الحرب وطغيان تنظيم داعش، هجمات انتقامية وحشية على أيدي الميليشيات والقوات الحكومية، حيث يعاقبون على ما ارتكبه التنظيم من جرائم».
نوري المالكي صرّح وبوضوح، بأن الميليشيات الشيعية ستقاتل، ليس في الموصل، وحلب، بل وستصل إلى اليمن!
هناك عزم على ترحيل أزمة الموصل إلى المنطقة، وترحيل التأزيم إلى دول مثل السعودية، والبحرين، تحديدًا، وذلك بغية استثمار الموصل بأكبر قدرٍ ممكن!
معركة الموصل ضرورية لدحر «داعش»، دول الأضداد تشارك في القتال، والعبرة بانتصار الموصل المدينة، وليس الفصيل الطائفي أو النزعة العرقية، وبنفس الوقت يجب أن نحارب أي تغيير لتركيبة السكان في أي مدينة، مهما كانت طائفتها الغالبة، أو ديانتها الطاغية.
معركة قد تطول، ولكن هل تحقق جميع أهدافها؟ أمر صعب ميدانيًا، والمعركة قد تأخذ وقتًا أطول مما هو مقدر. قد تحرر الموصل، لكن لن تكون الموصل التي قرأنا عنها ولا تلك التي نعرف.