عبدالحق عزوزي

أصبح ملتقى «الاتحاد» السنوي عرساً فكرياً واستراتيجياً بامتياز يجمع كتاب صفحات «وجهات نظر» في جريدة «الاتحاد» الغراء، وكل الكتاب معروفون بأقلامهم الملتزمة وبغيرتهم على الوطن العربي وأفكارهم وبرؤاهم في بيئة عربية أصبحت ضبابية أكثر من أي وقت مضى.. وقد أجاد مسؤولو الجريدة باختيارهم موضوعاً ذا أهمية وراهنية: الوطن العربي بعد مئة سنة على اتفاقية سايكس- بيكو، وهي واحدة من المؤامرات المتوالية التي قسمت ومزقت الوطن العربي، وجعلته دائماً يعيش ويلات التشرذم والصراعات والاختراقات المتتابعة، وفي كل مرة تأتي موجة وتتبعها مخططات مبيتة ومدروسة تأتي على الأخضر واليابس. قارن معي: الحراك الشعبي العربي الذي انطلق من رحم أحداث ما سمي ثورة الياسمين في تونس أواخر 2010 أعطى ما يمكن أن نسميه مع آخرين بسراب الثورة، وواقع اللاثورة، فمرور ما يزيد على خمس سنوات الآن بعد تفجرها يعطينا إمكانية دراسة ديناميتها وآثارها والتحولات الممكنة بعدها. فهناك أقطار تواجدت في مركز الهزات الثورية التي تمخضت عنها انهيارات متوالية ومتفاوتة الدرجة لأنظمة سياسية سلطوية في تونس ومصر وليبيا واليمن، وهناك أقطار تتهاوى القشرة الحامية لها وللمؤسسات كسوريا، وهناك أقطار أخرى وقعت في خط ارتداداتها بسبب الجيرة، وهي عمان والأردن والجزائر والمغرب. ومربط الفرس في هذا التمييز يمكن تلمسه من التفرقة بين دول «الثورات» العاتية، حيث إن بعضها لم تتبعها موجات متزنة ومدروسة من التثبيت والتجذير الديمقراطي فكانت الكارثة، وأوضح مثال ذلك هو ليبيا، وبين دول الثورات التي تعاني ويلات هذا الوابل، حيث إن الانفلات الأمني والفراغ المؤسساتي وظهور إرهاب لم يعهده تاريخ الانتقالات الديمقراطية جعلها في مستنقع اللاستقرار والانفجارات المدوية. ثم هناك دول أخرى تمكنت من تصور سياسات استباقية بفضل حزمة الإصلاحات السياسية القديمة وذكاء النخب الموجودة في المجال السياسي العام، وأفضل مثال على ذلك هو المغرب.

والمقام لا يسمح بالرجوع إلى أسباب وتداعيات هذه الثوراث، فقد فصلناها في مَواطن أخرى يمكن الرجوع إليها، ولكن الأهم هو أنك إذا درست كل بلد على حدة فستجد عدد المتدخلين والفاعلين الأجانب وعلى رأسهم القوى الكبرى الذين يوجهون سياساتهم تجاهه بكل الطرق، مشفوعة بكل أنواع الدعم، بما في ذلك العسكرية منها... ونتذكر القمة الخليجية المغربية الأولى عندما حذر العاهل المغربي الملك محمد السادس في خطابه إلى قادة دول مجلس التعاون الخليجي من «مخططات مبرمجة» تستهدف الدول العربية، ومؤامرات تستهدف المساس بالأمن الجماعي لدول الخليج والمغرب والأردن، التي وصفها بأنها واحة أمن، فهناك مخططات عدوانية تستهدف المس باستقرار دول المنطقة، وهي «متواصلة ولن تتوقف». ولذا شدد ملك المغرب في خطابه على أن تلك المخططات «بعد تمزيق وتدمير عدد من دول المشرق العربي.. ها هي اليوم تستهدف غربه»، على أن آخرها المناورات التي تحاك ضد الوحدة الترابية للمغرب. واستحضر العاهل المغربي، في خطابه قضية الصحراء التي نالت مساندة خليجية مباشرة، إذ قال الملك محمد السادس إن «خصوم المغرب يستعملون كل الوسائل، المباشرة وغير المباشرة، في مناوراتهم المكشوفة»، على أنهم «يحاولون، حسب الظروف، إما نزع الشرعية عن وجود المغرب في صحرائه، أو تعزيز خيار الاستقلال وأطروحة الانفصال، أو إضعاف مبادرة الحكم الذاتي.. التي يشهد المجتمع الدولي بجديتها ومصداقيتها».

إن جميع التقارير والتحليلات الجادة تشير إلى أن دول العالم تعيش اليوم في حال من الارتباك الاقتصادي، والاجتماعي، والسياسي، لا يخفى على أحد. وهذا الارتباك لا يسلم منه أحد، خاصة دولنا العربية، وهناك أمور تتغير بين غمضة عين وانتباهتها.. وهناك تحولات عميقة في السياسات الخارجية للدول العظمى تجعل من قاعدة المؤامرات الخفية التي تتبعها سلاحها للبقاء والتأثير الدائم بأقل التكاليف والاستفادة من النتائج. والدول العربية يجب أن تعي هذه الوقائع المتوالية، وخاصة بعد أن تحول الحراك الشعبي في العديد من الدول إلى خريف عربي، تاركاً بعض الدول في علم الغيب بسبب الفوضى والمجهول. وأخرى ركبت سفينة النجاة دون أن تبصر المدى المتوسط والمدى البعيد. وثالثة بقيت في منأىً عن تلك الاحتجاجات الجارفة، ولكن محددات السياسات الخارجية عموماً، والنظام الاقتصادي، والاستراتيجيات التحالفية والأمنية، يجب أن تتغير وتتقوى، وخاصة الدول المحورية في المنطقة العربية، وللحديث بقية.