عبد المنعم سعيد 

 ارتجت الولايات المتحدة بأكملها عندما أعلن المرشح الجمهوري دونالد ترامب خلال المناظرة الثالثة مع هيلاري كلينتون بشكل قطعي، أنه لن يعطي أي نوع من أنواع المباركة لنتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية إلا حسب ما يرى يوم الانتخابات. ولم يكن هذا القول جديدا بالمرة فقد سبق للرجل أن أعلن بشكل واضح أن الانتخابات الأميركية يجري تزويرها، وأن تحالفًا من أعدائه يضم الإعلام والحزب الديمقراطي بالطبع، وأقطاب الحزب الجمهوري، قد عقدوا العزم علي إسقاطه في الانتخابات سواء حصل على أعلى الأصوات أم لا. وحسبما يرى، فإن الشعب الأميركي له رأي آخر وهو أنه يرغب في «التغيير»، وإزاحة النخبة الفاسدة من السلطة. وببساطة فإن ترامب قرر إحراق كل السفن السياسية ليس مع المرشح المنافس فقط، وإنما مع النظام السياسي الأميركي، الذي لا تزال نخبة منه تشمل بالمناسبة المرشح نائبًا له، وزوجته، ومديرة الحملة الانتخابية له، وكل الأقطاب المعروفين للسياسة الأميركية أيا كان الحزب الذي ينتمون إليه، أو حتى عندما لا ينتمون لأحزاب على الإطلاق.

الكلام هكذا يبدو كما لو كان جاريا في العالم الثالث، عندما تصر كل الأطراف، خصوصا الخائفة من الخسران، على أن التزوير من طبائع النظام، حيث يصوت من هم في قوائم الموتى، ويصوت الشخص الواحد لعدد من المرات. وتستند هذه الاتهامات إلى دراسات أشارت بالفعل إلى وجود أسماء 126 ألفا تقريبا من الموتى على القوائم الانتخابية، كما أنه في حالات بعينها ثبت تردد عدد من المصوتين على الصندوق الانتخابي ذاته، وفي ولايات أخرى صوت من لم يسجلوا بعد كمواطنين في قوائم المواطنة التي تسمح لهم بالمشاركة الديمقراطية. وللحق، فإن مجموعة الحجج التي ساقها الرافضون لترامب كانت محاولة منع صب التراب على الديمقراطية الأميركية كلها. فلا نجح طرح أن الحالات المذكورة تمثل نسبة ضئيلة من نحو 126 مليون نسمة من المسجلين انتخابيا، ولا نفعت أنه لم يثبت أن أيا من حالات الموتى المصوتين قد خلقت فارقا في نتيجة انتخابية، ولا سُجل أن الانتخابات تجري ليس على أساس الدولة الأميركية كلها، وإنما في الولايات المختلفة وحسب الإجراءات التي وضعتها أجهزتها التشريعية، وتنفذها الأجهزة التنفيذية التي حدث أنها تقع تحت قيادة حكام الولايات، وأغلبيتهم من الجمهوريين.
كل ذلك لم يفلح في منع حالة الهلع التي أصابت الدولة الأميركية والمواطن الأميركي عندما ذكر ترامب الإعلان أعلاه، وهو المخالف لكل التقاليد الأميركية التي استقرت على أن تكون الانتخابات الأميركية حامية الوطيس، ولكنها في النهاية تستقر عند فائز واحد يقوم المرشح المهزوم بتهنئته مقدمًا تنازله عن المنافسة. كان التقليد مستقرًا إلى الدرجة التي جعلت ريتشارد نيكسون المرشح الجمهوري للرئاسة الأميركية يهنئ المرشح الديمقراطي جون كينيدي في انتخابات عام 1960، رغم أنه كانت هناك دلائل قوية يمكن المقاضاة على أساسها؛ بأن عمدة مدينة شيكاغو قام بتزوير 100 ألف صوت لصالح الأخير، مما جعله يفوز بأصوات ولاية إلينوي التي رجحت موقفه في الانتخابات العامة كلها. وكذلك فإن آل غور المرشح الديمقراطي في انتخابات عام 2000 تنازل عن فوزه بأغلبية الأصوات الشعبية في الانتخابات لأن منافسه جورج بوش الابن جرى إعلانه فائزا بأصوات المجمع الانتخابي من قبل المحكمة الدستورية العليا بعد إعادة عد الأصوات في ولاية فلوريدا. ترامب في كل الأحوال لم يكن على استعداد لأن يكون ريتشارد نيكسون، ولا آل غور، كان في الحقيقة يريد أن يكون دونالد ترامب، الذي لا ينتمي لأي من هذه التقاليد.
كيف حدث هذا الانقلاب في التقاليد الديمقراطية الأميركية؟ وهل للأمر كله علاقة بما يبدو كما لو كان انهيارا في هذه التقاليد في العالم الغربي كله الذي تضاءلت فيه الفكرة الديمقراطية لصالح توجهات «شعبوية» ظهرت بقوة فيما عرف بـ«البريكست» أو الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، كما ظهرت بالقوة ذاتها وأكثر فيما بات معروفا بـ«ظاهرة ترامب»؟ الحقيقة أن هناك أربع إجابات عن السؤال. الأولى أن ما يحدث حاليًا في أوروبا والولايات المتحدة هو استجابة متأخرة لانتهاء الحرب الباردة التي أدت إلى انهيار الاتحاد السوفياتي. الجوهر آنذاك هو أن الدول ذات الطبيعة الإمبراطورية الواسعة لم يعد ممكنًا استمرارها في ظل عمليات التمكين للفرد والمحليات (والطوائف والجماعات الفرعية والمذاهب). ولذا فإن استمرار الإمبراطورية الأميركية لم يكن منطقيًا، ولا كان منطقيا أن تخلق أوروبا من نفسها إمبراطورية جديدة تضم 28 دولة. والثانية أن الثورة التكنولوجية المعاصرة كان لها يد عظمى في عملية التمكين هذه، فالفرد يستطيع الوصول إلى عشرات الملايين، ولم تكن هناك صدفة أن ترامب استخدم «تويتر» لتعبئة الملايين وراء أفكاره العنصرية، وحشدهم في اتجاه حركات سياسية ذات طبيعة فاشية.
والثالثة أن إحدى النتائج الكبرى للثورة التكنولوجية هي أنها قسمت المجتمعات الغربية إلى نوعين من المجتمعات: المجتمعات الصناعية التقليدية القائمة على تكنولوجيات الثورة الصناعية الثانية التي قدمت لصناعات الحديد والصلب والأسمدة والسيارات والصناعات الكيماوية، وما يقف خلفها من مناجم ومصادر الثروة الطبيعية، ومجتمعات الثورة الصناعية التكنولوجية الثالثة والرابعة والمعتمدة على المعرفة والذكاء الصناعي. المعنى السياسي لكل ذلك أنه بات لدينا داخل المجتمع الواحد مجتمعان اختلفت مصالحهما الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. هذا الأمر بات واضحًا للغاية في الولايات المتحدة الأميركية، فالولايات ذات الصناعات التقليدية انخفضت أهميتها مقارنة بولايات الصناعات الحديثة، وبينما تراجعت الأجور في الأولى، فإنها ارتفعت في الثانية. ولم تكن هناك صدفة أن ترامب وجد تجاوبًا كبيرًا مع دعوته في الولايات الصناعية التقليدية مثل أوهايو وميشيغان وفلوريدا وبنسلفانيا وكارولينا الشمالية، بينما وقفت وراء كلينتون ولايات مثل كاليفورنيا وولاية واشنطن وأوريغون ونيويورك وماساتشوسيتس وأمثالها في منطقة الشمال الشرقي حيث توجد بغزارة أودية السليكون وممرات البحوث المتقدمة.
والرابعة أن حصاد كل ما سبق هو وجود تربة خصبه للتوجهات «الشعبوية» أو Populism التي تلعب على أوتار العواطف الشعبية وما فيها من انقياد نحو كراهية الآخر، والتمركز حول شخصيات «كارزمية» تعرف كيف تستخدم لغة تلهب العواطف وتحشد المشاعر. ترامب كان خلال الحملة الانتخابية ممثلا بنقاء لهذا الاتجاه ومن ثم وجد تجاوبا من الطبقة الصناعية التقليدية التي وجدته يعرف لغتها ويستخدمها بصورة يومية، وهؤلاء هم الذين كما يبدو سوف يكونون أداته بعد خسارة المعركة الانتخابية لبدء معركة سياسية من نوع آخر. الأمر هكذا يفتح الباب لسلسلة من الاختبارات للدولة الأميركية، وللإنسان الأميركي، وللولايات الأميركية، وللفكرة الديمقراطية بحيث نعلم عما إذا كانت فيها من الأصالة الفكرية والمؤسسية ما يجعلها قادرة على تجاوز محنتها الراهنة. الاختبار لا شك قاسٍ، ومعضلة العالم ربما لا تكون مع الديمقراطية، وإنما مع الولايات المتحدة وقد أصبحت تواجه حالة الاختبار الصعبة هذه!