هل اندفع بري تلقائياً إلى فخ نُصِب له أم أن "الحظّ" جانَبه هذه المرة ؟

 ابراهيم بيرم

 فيما يقف العماد ميشال عون على عتبة قصر بعبدا ليملأ فراغه إذا سارت الامور وفق ما هو مرتقب، وفيما بدأ الجميع يعيد حساباته وقراءة أوراقه وينطلق الى الخطة "ب" بعدما تيقن، خصوصاً عقب الكلام الاخير الحاسم للامين العام لـ "حزب الله" السيد حسن نصرالله، ان ما من قوة او إرادة بمقدورها اعادة عجلة الامور الى الوراء، فان الأنظار تظل شاخصة نحو رئيس مجلس النواب نبيه بري بهدف استشراف ايّ الطرق سيسلك وايّ الخيارات سيلتزم في نهاية المطاف.

ولا ريب في ان السؤال الذي يكبر حيال ذلك هو: هل ان الحظ يوشك ان يتخلى هذه المرة عن احد ابرز سادة اللعبة السياسية في لبنان منذ ما يقرب من ربع قرن، وبدا وكأنه انساق بنفسه الى فخ سياسي نصب له في ليل، أم ان ثقته بقدرته وحضوره الطاغي الذي لا يمكن أحداً تجاهله او الاستغناء عنه او السير قدماً من دونه، كانت كلها بمثابة "غلطة الشاطر" الذي سمح للآخرين من حلفاء وخصوم على السواء بأن يأخذوه على حين غرة، فيمسي ربما للمرة الاولى منذ مطلع عقد الثمانينات خارج فعل سياسي بحجم انتخاب رئيس جديد، واستطراداً ارساء مداميك معادلة سياسية مختلفة المواصفات وتنطوي على متغيرات في الاوزان والادوار واللاعبين؟
السؤال يكتسب شرعيته وإلحاحه لدى البعض انطلاقاً من واقعة انهم لم يعثروا حتى الساعة عمن كان يفترض فيهم ان يراعوا خاطره (بري) فيسارعوا الى تقديم سُلَّم له ليبدأ النزول من أعلى الشجرة التي صعد اليها بموقفه، فلم يأخذوا جدياً باقتراح سرى لبعض الوقت اخيرا وفحواه الدعوة الى تأجيل جلسة انتخاب الرئيس المقررة في 31 الجاري، عسى ولعل يكون ذلك باباً لاقناع بري بالانضمام الى ركب المعادلة الجديدة التي بدأت تتضح معالمها يوما بعد يوم وفتحت الابواب الموصدة امام بلوغ عون قصر بعبدا مجددا.
وقبل ذلك لم يأخذ الرئيس سعد الحريري برسالة بري التي بلغته ذات ثلثاء من الاسبوع الماضي وعبر موفده الاقرب الوزير علي حسن خليل، وفحواها: "انني لن اسير في ما انتم ماضون به بقدم، ولن اخط اليه بقلم، فأنتم تجاهلتموني في الاعداد والاخراج ووضعتموني امام امر واقع عليّ الاستسلام له كما هو بكل تفاصيله المضمرة والمعلنة او أبقى وحيداً وأندم".
وقبلها ايضا لم يتجاوب "حزب الله" المفترض انه الحليف الاقرب الى بري مع رسائله المتكررة مباشرة وغير مباشرة، وجوهرها: "خذوا علماً انني لن اسير معكم في خياركم، فلا تحاولوا معي بعد فوات الاوان لانني سأشكل للحيلولة دون وصوله خط اعتراض وسأقود في حال وصوله جبهة معارضة".
ولكن، وفق سياق الامور لاحقاً، سارت الرياح بخلاف ما تشتهيه سفن بري. ففي اليوم التالي لرسالته المعارضة (بري) الحاسمة الى "بيت الوسط" اطل الرئيس الحريري على الاعلام في مشهد معبّر تالياً بياناً مدروساً بعناية انطوى على ما يشبه مرافعة عن خياره معتبرا انه ممر اجباري وانه خيار الضرورة، لا سيما بعدما قرن السير به بالحفاظ على الكيان وعلى هوية البلد واولاً على اتفاق الطائف الجزء الاكبر والاعز من ارث والده السياسي، وهذا يعني انه ارتقى بهذا الخيار الى مقام معادل لوجود البلد وديمومة النظام فيه.
وفيما كان بري ينتظر ان ينضم اليه في رحلة معارضته حليفه التاريخي النائب وليد جنبلاط، أتاه وفد من لدن الاخير يبلغه انه بعد سبر اغوار الحريري لم يعد امامه سوى الكف عن اي اعتراض، وانه بدأ يفكر جديا في التزام خيار زعيم "التيار الازرق" لان ليس من مصلحته الوقوف في وجه اي اتفاق بين السني القوي والمسيحي القوي في معادلة الشوف الثلاثية الطرف.
واذا كان بري قد اقتنع بظروف حليفه الصعبة والقاهرة والتي وضعته في ما يشبه فكَّي كماشة، فانه لا بد فوجىء بموقف حليفه الآخر، اي "حزب الله"، الذي لم يسارع الى التواصل معه كما ينبغي واستمر الحزب ينسج على المنوال نفسه حتى بعدما بادر بري الى رفع منسوب اعتراضه وإعلاء صوته والتلويح بشكل غير مباشر بخيار الشارع وبامكان اللجوء الى خيارات التعويق، خصوصاً وقد علت الكثير من الشوارع في بيروت والضاحية والجنوب لافتات تنطوي على ما يعرف الحزب جيداً معانيه البعيدة.
بمعنى آخر لم يسارع الحزب على جاري العادة الى احتواء غضب بري، بل تركه يفرغ ما في جعبته معتصما بالصمت والتعاطي ببرودة غير معهودة من جانبه حيال المستجد، لا بل ان الحزب لم يكفّ اطلاقا عن اشهار التزامه خيار عون وانه ليس في وارد الانكفاء او حتى ارجاء الامر.
وتجسد المشهد الاكثر تعبيرا في الاطلالة الاخيرة للسيد نصرالله، اذ ظهر اكثر تصميما على المضي في خيار عون الى درجة الاستعداد للتصويت بالورقة المكشوفة له.
واكثر من ذلك، لم يكتم السيد شعورا بالاستياء يعتمل في طوايا نفسه من جراء التباينات التي ظهرت في مواقف حلفائه الثلاثة ("امل"، "التيار الوطني الحر" و"المردة") بحيث ان هذه الاطراف بدت وكأنها تغلّب حساباتها الضيقة على الخيارات الاستراتيجية الكبرى التي بذل الحلف في سبيلها تضحيات جساماً في الاعوام العشرة الماضية، داعيا الجميع الى اعادة تصويب البوصلة نحو الاتجاه الصحيح.
وأبعد من ذلك، ثمة من رأى في كلام نصرالله انه يعرب عن حرصه التام على تأمين اقلاع مضمون لعهد عون الرئاسي من خلال نصح الاخير بازالة اية عوائق من امام بلوغ الحريري الرئاسة الثالثة، فضلاً عن ان ذلك من شأنه تفويت الفرصة على المبشرين سلفا بأزمة في تأليف الحكومة الاولى في العهد المقبل.
في اي حال، وبعد كل هذه التطورات المتسارعة التي تصب في خانة واحدة وهي ان لا مجال لاعادة عقارب الزمن الى الوراء في الاستحقاق الرئاسي، فان ثمة من يرى ان بري صار أمام خيارين مرين احلاهما انطواء صفحة دور راعي التركيبة واللعبة السياسية الذي كان له في الاعوام الماضية، وهذان الخياران هما:
- إما الالتحاق المتأخر بركب التسوية التي نسجت خيوطها من دون علمه، وهو إن حصل سيكون بمثابة عودة "الابن الضال"، وفي هذه العودة ما فيها من خسارة معنوية.
- وإما المضي قدماً في ما بدأه من اعتراض على التسوية اياها، وعندها سيبقى وحيدا وسيضع نفسه في مواجهة عهد وسيظهر بمظهر المشاغب.
وبصرف النظر عن اي من السبيلين سيختار، وبصرف النظر عما اذا كان دُفع دفعاً الى الفخ او انه هو من اخطأ الحساب، فالاكيد ان الاسابيع القليلة الماضية لم تكن فترة "سعد" بري، وان الحظ الذي رافقه طويلا ربما عاكسه هذه المرة.