مصطفى زين

 خصصت مجلة «مواقف» في عددها 70 -71 ملفاً للتشكيلي السوري مروان قصاب باشي الذي رحل قبل أيام، شاركت فيه الشاعرة الألمانية كارين كيفوس وعبد الرحمن منيف وأدونيس. استوحى أدونيس وكيفوس تشكيل الوجوه التي طبعت مرحلة طويلة من مراحل تحولات مروان. وكتب منيف، من منطلق صداقته للفنان نصاً مستوحى أيضاً من هذه المرحلة.

كيف رأى كل منهم وجوه مروان؟ الشاعرة الألمانية رأت فيها حواري دمشق وبساتينها وبيوتها وأزقتها، وشجيرات الياسمين والغاردينيا. وحركات «تحاور نفسها/ لحظة إثر لحظة/ طبقة فوق طبقة»، في الأرض والسماء/ الأزرق الغامق، وألوان المشمش/ في مستوى النهر الضامر/ بين مروج الكآبة والقصب/. تحاول الشاعرة أن تتابع حركة الفرشاة وتتابع الألوان واحتضانها ما في المدينة من تفاصيل تنعكس على الوجوه، أو تعكسها الوجوه، من دون أن تستطيع التقاط ما تريد اللوحة الإيحاء به، فيبدو نصها غارقاً في وصف تفاصيل لا يستطيع القارئ التقاطها لكثرة تتابعها وتوالدها.

عبد الرحمن منيف يكتب نصاً تحليلياً يسرد فيه كيف تحول مروان من «البسيط إلى الإشكالي»، وكيف انتقل الفنان من دمشق إلى ألمانيا، وتأثره بالانطباعية، وكيف أن للمكان تأثيره الحاسم في تبلور الشخصية. لكن لدى مروان مكانين: ألمانيا حيث أقام وتبلور اتجاهه الفني، ودمشق التي غادرها ولم تغادره. ولديه ثقافتان: الألمانية بحكم وجوده في قلب الحركة الثقافية التي أصبح أحد أقطابها واستحق أرفع جوائزها ولقب «روح ألمانيا»، ودمشق التي بقيت تحفر في لاوعيه وفي ذاكرته. والثقافة العربية التي لم ينقطع عن الاتصال بها. فرسم وجه عبد الرحمن منيف، وأدونيس ونزار قباني، وتمثالاً لبدر شاكر السياب وغيرهم.

في هذه الوجوه لا تكاد تعرف ملامح أصحابها، هو لا يرسم الوجه أو الشخص. ليس هذا ما يرمي إليه فالكاميرا أقدر منه على ذلك، هو يشكل الوجه ولا يرسمه. ينقل تحولاته اللامتناهية إلى اللوحة. ينقل الأحلام والأوهام والأحزان والأفراح التي تنعكس على الوجه فيبدو كتلة من الخطوط والأخاديد والالتواءات. كل خط يمحو الآخر، يتداخل مع كتلة لينفذ إلى أخرى، في عملية متواصلة لا تنتهي. عملية ابتداع الشكل من الحلم أو من العدم، أو هي تجربة لا تكاد تنتهي حتى تبدأ من جديد. يكتب أدونيس في هذا المعنى: «الوجه متاهة: لا لقاء فنياً، إلا في المتاهة... ليس الوجه شكلاً بل حركة دائمة من التشكل. المكان والزمان موجة واحدة في بحر الوجه. ليس الوجه قناعاً لأي شيء. لا يحضر الوجه إلا عندما تغيب تقاطيعه».

يكتب الناقد يورن ميركرت عن أعمال مروان (الوجوه والدمى خصوصاً) فيشبهها بمسرح بيكيت. هي «تعبير عن الحالة الروحية لمجتمع في تهشمه وانكساره الساخر». إن نظرة واحدة إلى السياب كما شكله مروان، وإلى وجوهه الأخرى، تكفي لنعرف مدى العبث الذي يطبع أعماله. فهل كان يحدس بالحروب؟ ثم هل حان الوقت لإعادة النظر في أعماله من منظار آخر، بعد كل هذا الانهيار وهذه المآسي؟

«روح ألمانيا» رسم وجه دمشق ورحل تاركاً فراغاً في الروح، وخطوطاً لم تكتمل في تشكيل الوجه.