عادل درويش

 ظاهريًا يبدو المهاجرون غامقو البشرة «ضحية» لبولدوزرات تزيل خيامًا وأكشاكًا تحوى القليل من متاع الدنيا، تحطمت معها أحلامهم بالانتقال إلى بريطانيا في المخيم المعروف بالأدغال، قرب ميناء كاليه.
نموذج للتناقضات بين المعاهدات الثنائية أو الدولية والقوانين القومية، وما وراءها من وضعية الاتحاد الأوروبي بتجاهله للديمقراطية (إرادة الشعب في شكل نوابه المنتخبين مباشرة).
الأزمة تعود إلى 1991، وتوقيع اتفاقية الحدود الأنغلوفرنسية «سينغات» Sengatte، ثم بروتوكولاتها الإضافية في 1993 و2000 و2004 (بانضمام بلجيكا إليها)، بعد افتتاح نفق بحر المانش، وتسيير القطار الإكسبريس السريع «يوروستار» بين لندن وباريس وبروكسل. توضع الحدود القانونية (أي التفتيش على الباسبور ومنح الفيزا لغير مواطني معاهدة لشبونة وماستريخت) قبل تحرك وسيلة السفر، أي ضباط الجوازات البلجيكيين والفرنسيين في محطة القطار في لندن والموانئ البريطانية، والبريطانيين في الموانئ الفرنسية والبلجيكية.
بريطانيا تتكون من مجموعة جزر يحيط بها البحر من كل مكان (باستثناء جبل طارق، وهي أرض بريطانية لكنها جزء من القارة الأوروبية عند مدخل المتوسط).
إنجلترا واسكوتلندا وإمارة ويلز، تتكون منها بريطانيا العظمى، وتختلف ككيان جغرافي عن المملكة المتحدة (تتكون من بريطانيا العظمى وآيرلندا الشمالية وجبل طارق وجزر أخرى)، بينما مجموعة رعايا التاج البريطاني (جزر حكم ذاتي مستقل كأرخبيل في الأطلسي، وجزر المانش، وجزر البحر الآيرلندي وبعض جزر الكاريبي)، في حين أن «الجزر البريطانية» (لا تشمل أجزاء من المملكة المتحدة، كجبل طارق مثلا) هي أكثر من 6 آلاف جزيرة، أكبرها بريطانيا العظمى، كجزيرة الآيرلنديتين، الشمالية والجمهورية الآيرلندية (وتوابعها من جزر أصغر)، وجزر القنال الإنجليزي وشمال الأطلسي، وشمال غربي القارة الأوروبية.
بريطانيا كمجموعة جزر فرضت وضعا عمليا لاتفاق «سينغات» جعل منها مقصدا نهائيا للغالبية الساحقة من المهاجرين.
محطات القطار من بلجيكا (بروكسل وانتويرب)، أو من باريس، يصعب على المهاجرين غير الشرعيين التسلل منها (دقة فحص الباسبور وأوراق السفر، ولا بد من حجز مقعد في قطار لا مكان فيه للوقوف، وآمن مثل المطارات). كذلك مناطق العبور البحري عبر العبارات، من أوستايند وسانت مالو ودييب وغيرها، الحركة فيها محدودة والمسافة البحرية بعيدة والمنافذ محددة.
أقصر مسافة بحرية بين أوروبا وإنجلترا هي 22 ميلا بين كاليه ودوفر. والقنال الإنجليزي (المانش) أكثر بحر أو ممر مائي مزدحم بالملاحة في العالم. وبالفعل، يضبط أسبوعيا ما بين محاولتين وأربع محاولات تهريب بشر بالقوارب السريعة عبر هذه المسافة (عادة يضبط أقل من عشر في المائة من المحاولات). حركة نقل البضائع التي تقلها الشاحنات والباصات وسيارات المسافرين (خصوصا في العطلات) بضعة آلاف يوميا إلى قطار تنقل السيارات والشاحنات والمسافرين كل بضع دقائق. في العقد الأخير تدفق المهاجرون، بلا حق قانوني أو تأشيرة دخول بريطانيا، فيرفضها مكتب الجوازات البريطاني في كاليه، فيذهبون إلى مخيم الأدغال؛ معسكر نما في العقد الأخير ليحوي ما بين ثمانية وعشرة آلاف شخص.
هناك مساجد، وكنائس، بل ومحلات تجارية وخدمات، مثل «مخيمات» فلسطينية أصبحت مدنا بأكملها في الضفة الغربية وجنوب لبنان.
حسب الإحصائيات، متوسط دورة بقاء المهاجر (90 في المائة منهم شباب ذكور أقوياء) ثلاثة أشهر، ثم يختفي بلا أثر. غالبيتهم يتمكن من التسلل إلى بريطانيا، بالاختباء في شاحنات النقل، أو تحت عربات القطار (كثير من الحوادث المؤسفة لقي فيها البعض حتفه أو فقد أطرافه)، أو تهريب برشوة المهربين.
القوانين البريطانية معقدة، ولا توجد بطاقة إثبات الهوية الشخصية، فهو أمر يرفضه البريطانيون، والبوليس لا يحمل سلاحا، والوضع القانوني أن يصدق المسؤولون ما يقوله الشخص حتى يثبت العكس.
ويتكرر يوميا اكتشاف البوليس عشرات من المهاجرين مهربين في شاحنات نقل البضائع في جنوب إنجلترا، فتوجه للسائق تهمة تهريب البشر (ومن الصعب إدانته في المحكمة بلا أدلة مادية كتلقيه ثمن التهريب والشهود)، ولا توجد تهمة محددة توجه للمهاجرين المضبوطين، وغالبا يمزقون أوراق السفر، ومن الصعب تحديد هويتهم. ومع غياب الأدوات القانونية في يد البوليس (المسؤول أمام القانون والصحافة والبرلمان)، فلا بديل أمامه إلا إخلاء سبيل المهاجرين غير الشرعيين، وتزويدهم بعنوان قسم تسجيل الأجانب بمصلحة الهجرة في بلدة كرويدون جنوب لندن، وأحيانا يضطر البوليس أو المجلس المحلي إلى تزويدهم بالطعام والشراب ومصاريف الجيب وسيارة أجرة تنقلهم للمصلحة.
ومع غياب وسيلة قانونية لمتابعة خط سير هؤلاء، فأغلبهم يختفون من السجلات، وبالطبع يلتحقون بما يعرف بالاقتصاد الخفي وسوق العمالة السوداء.
الأمر الأكثر خطورة هو الأمن، وإمكانية تهريب عصابات إرهاب كـ«داعش» لعناصرها وخلاياها ضمن المهاجرين.
ويقدر عدد «المختفين» الذين دخلوا بريطانيا بطرق غير شرعية (من سجلات توقيف البوليس والإدارة المحلية)، بما بين ألفين و3500 شهريًا. أما الذين لم يدخلوا هذه السجلات، فلا يعرف أحد عددهم.
هذه السهولة والتسامح القانوني يجعل بريطانيا هدفهم الأول، فالقادم من أفغانستان أو بنغلاديش عبر تركيا يمر بأربعة بلدان أوروبية قبل الوصول إلى كاليه، والقادم من السنغال أو تشاد عبر ليبيا أو تونس أو المغرب يهبط في إيطاليا أو إسبانيا أولا، إذا لم يغرق في المتوسط.
اتفاقية دبلن عام 1990 تشترط طلب اللجوء السياسي، أو اللجوء لأسباب إنسانية، في أول بلد آمن يحط فيه اللاجئ، إذا كان بالفعل هاربًا من حرب أو اضطهاد ديني أو ثقافي، فلماذا لم يطلب اللجوء فيها وهي بلدان آمنة، إذا كان القصد هو الملجأ الآمن؟!
وحتى إذا كان المطلب هو الهجرة الاقتصادية، ففرنسا والبلدان التي مر بها المهاجر توفر لهم الفرصة؛ قوانين حماية حقوق العاملين فيها ممتازة، مثلما يروج أنصار الاتحاد الأوروبي، أم أن المقصد هو بلد يمكن الالتفاف حول قوانينه؟
بريطانيا التي تلتزم بالاتفاقيات الدولية، وأكثر بلدان العالم المتحضر رحمة باللاجئين ومنحا للإعانات، تلح على فرنسا لسنوات لإيجاد حل سريع للمشكلة.
الفرنسيون تحركوا ومرشحو الرئاسة المنافسون للاشتراكيين بزعامة فرنسوا هولاند يكسبون التأييد الشعبي من فوضى معسكرات المهاجرين.
إذا كان تحرك الفرنسيين بتوزيع سكان مخيم الأدغال على بقية أنحاء فرنسا هو مناورة سياسية، وليس جزءًا من استراتيجية طويلة الأمد، فالخطوة ستزيد المشكلة تعقيدًا، وسيحاول المهاجرون البحث عن طرق غير آمنة للقدوم إلى بريطانيا، معرضين أنفسهم للأخطار. وإذا نجوا منها، فللاستغلال في سوق العمالة السوداء.