وديع عواودة

كفرقاسم مدينة فلسطينية داخل أراضي 48 تعرف ببلد الشهداء وهي تسمية تعود لملحمة كبيرة عمرها ستون عاما صممت فيها على الحياة والبقاء رغم مجزرة إسرائيلية حصدت 49 إنسانا وأصابت العشرات بإصابات بالغة والمئات بجراح نفسية لا تندمل. خلف دخان العدوان الثلاثي على مصر في 29 تشرين الأول/أكتوبر 1956 قامت قوات من حرس الحدود الإسرائيلي بفرض حظر تجول مفاجئ على الأهالي دون منحهم فرصة لتطبيقه في مساء ذاك اليوم الأسود تمهيدا لقيامها بحصد العمال والفلاحين العائدين لبيوتهم. وكانت إسرائيل تهدف بواسطة هذه المذبحة تكرار سيناريو النكبة من أجل تهجير الفلسطينيين المتبقين في وطنهم بعد 1948 بالترهيب وبث الرعب فحاصرت القرية من ثلاث جهات تاركة جهة الشرق لكن أهاليها النازفين آثروا البقاء مهما ارتفع أزيز الرصاص واتسع القتل. وقتها كانت تعد كفرقاسم نحو 1600 نسمة واليوم تضاعفت تعدادها مرات كثيرة ليصبح 26 ألف نسمة وصارت مدينة جميلة عامرة تلتفت للوراء بخشوع واعتزاز وألم وتنظر للمستقبل بأمل كما يتبين خلال زيارة «القدس العربي» لها.

عبد الكريم قاسم

المدينة القائمة شرقي ـ شمال يافا في حالة تعلن حزنها على أعتاب مداخلها وميادينها حيث ترفرف رايات سوداء بكل شوارعها وتنتشر لافتات عملاقة تذكّر بملحمتها بعنوان كتب بألوان العلم الفلسطيني «الشهداء يوحدون الوطن». في الأسبوعين الأخيرين كرس رئيس المجلس البلدي في كفرقاسم المحامي عادل بدير الكثير من طاقاته وأوقاته للإشراف على فعاليات إحياء الذكرى الستون لملحمة كفرقاسم واعيا أنها تتعدى حدودها المحلية لكونها رمزا فلسطينيا وعربيا بارزا وراغبا بنقل الرواية للأجيال الناشئة رواية الغول الإسرائيلي ومواجهته بالبقاء رغم النزيف الكبير. ولا يغفل بدير عن استذكار الرئيس العراقي الراحل عبد الكريم قاسم الذي استقر في البلدة يوم قدم لنجدتها في 1948. وقتها دخلها الجيش العراقي بقيادة المقدم عبد الكريم قاسم في 31 أيار/مايو 1948 وخاض معركة سميت بمعركة «كفرقاسم» استعاد فيها أراضي البلدة وبيارات برتقالها. مكث عبد الكريم قاسم فيها نحو العام واستغل الهدنة ليعمل على هدم الأزقة وفتح الشوارع وتنظيم بناء البيوت وهي مدينة له بذلك حتى اليوم كما يؤكد عادل بدير ويضيف: «ترك عبد الكريم قاسم وصية لأهالي كفرقاسم التي بادلته المحبة والوفاء فدعاهم للبقاء فيها مهما كانت التحديات». ويقول بدير رئيس بلدية كفرقاسم التي سمت جادتها المركزية «عبد الكريم قاسم» تكريما لذكراه ويوضح أن فعاليات الاستذكار لا تعلق بالبكاء على شهداء ارتقوا فحسب، بل تبرز ملحمة بقاء الأهالي الذين تركوا وقتها تحت حكم عسكري إسرائيلي كالأيتام على طاولة اللئام. وردا على سؤال يتابع «نريد لأطفالنا معرفة تاريخهم وروايتهم وثبات آبائهم وأجدادهم فهذا وطننا ولن نبرحه وفي المقابل لا نربي على الحقد والانتقام، بيد أننا لن ننسى ولن نغفر وسنبقى نطالب إسرائيل الاعتراف بجريمتها والاعتذار عنها لا إبداء الأسف فحسب، ونحن لا نبحث عن تعويض بل نسعى كي لا تتكرر مثل هذه الجرائم في بلدتنا أو في شقيقاتها داخل أراضي 48». وتقع كفرقاسم ضمن منطقة تعرف بـ «المثلث» وهي آخر بلدات المساحة الجغرافية الممتدة حتى مدينة أم الفحم بمحاذاة الخط الأخضر. واكتسبت منطقة «المثلث الكبير» داخل أراضي 48 تسميتها لكونها جزءا من المنطقة الجغرافية الأم في الضفة الغربية المحتلة عام 1967 التي حملت اسم المثلث نفسه وهي المنطقة الواقعة بين المدن الثلاث جنين، وطولكرم ونابلس.
المثلث الكبير

وينعت المثلث بـ «الكبير» تمييزا بينه وبين آخر في فلسطين يسمى بالمثلث الصغير وهي ثلاث قرى (إجزم، وجبع وعين غزال) تقع في جبل الكرمل. وظل «المثلث يحمل اسم الأم المثلث الكبير، بعد تسليمه في اتفاقية الهدنة في رودوس عام 1949 لإسرائيل من الأردن التي سيطرت على الضفة بعد نكبة 1948 حتى 1967. وقتها استماتت إسرائيل في رودوس للحصول على هذه المنطقة الجغرافية (المثلث) الممتدة من أم الفحم إلى كفرقاسم لتكون شريطا جبليا يحمي سهلها الساحلي المكشوف. والمفارقة أن إسرائيل ونتيجة تحولات ديموغرافية وتغّير التحديات العسكرية باتت ترغب بالتخلص من منطقة 
«المثلث» جهارا نهارا بعدما باتت تعد اليوم نحو 200 ألف نسمة نتيجة تضاعف تعدادها عشر مرات منذ الاستيلاء عليها كما تجلى في تصريحات وزير أمنها أفيغدور ليبرمان لصحيفة «القدس» الأسبوع الماضي.
ويعبّر بدير عن موقف أهالي بلدته وكافة فلسطينيي الداخل الرافضين لكل أشكال النقل و«التبادل السكاني» والترحيل، مبديا اعتزازه باللجنة الشعبية في المدينة المشاركة في مشروع إحياء الذاكرة. ويجدر برئيس البلدية الاعتزاز بما تقدمه البلدية واللجنة الشعبية خاصة «بانوراما الشهداء» وهو صرح فني كبير يشبه بضخامته وجماليته بانوراما حرب تشرين 1973 في القاهرة، وهو يروي ملحمة كفرقاسم بالصوت والصورة. 
بانوراما الشهداء

وصمم «بانوراما الشهداء» الفنان خالد عازم من مدينة الطيبة المجاورة ومجموعة مهندسين قاموا بتصميم وبناء البانوراما تطوعا. والبارنوراما هذه عبارة عن عرض بالصوت والصورة يقدم بشكل مدهش وخلاق طيلة عشرين دقيقة رواية الملحمة الفلسطينية في كفرقاسم بكل فصولها وحيثياتها داخل عمارة تطفأ الأنوار داخلها خلال مشاهدة وإصغاء الزائرين لها بخشوع واحترام كبيرين. غير أن كفرقاسم ليست فقط ذكرى محفورة في ذاكرة الفلسطينيين، فرغم انشغالها بالماضي ترنو عيونها للمستقبل للمزيد من التجذر والتطور كما وكيفا. وجه كفرقاسم للبحر الأبيض المتوسط وظهرها للجبل حيث أكبر مستودع مياه جوفي في البلاد وينبع منه نهر العوجا الذي صار وفق التسمية الإسرائيلية «نهر اليركون» وفي مياهه تتدفق الحياة دون انقطاع، فهي أقوى من الموت وصناعه كما يقول غازي عيسى رئيس الدائرة الإعلامية في اللجنة الشعبية. موضحا أن بلدته «مدينة الشهداء» بنيت في القرن السابع عشر نسبة لمؤسسها الشيخ قاسم واكتسبت أهميتها لوقوعها على تقاطع طرق التجارة بين الشام والقاهرة وبين يافا وشرق الأردن وبجوارها قلعة مملوكية تعرف بقلعة «مجدل يابا».
يعتمد معظم السكان في معيشتهم على العمل بالأجرة في المصانع الإسرائيلية فيما يعتمد البعض منهم على التجارة والزراعة والصناعة الخفيفة والنقليات بعدما تراجعت الزراعة نتيجة عدة أسباب أبرزها مصادرة إسرائيل لأراضيها ومنح معظمها لمستوطنة «راس العين» المجاورة والمسكونة بالكثير من المهاجرين اليهود الشرقيين خاصة من اليمن.

النصب التذكاري

ومن أبرز معالم المدينة نصب تذكاري أقيم بعد المجزرة بعشرين عاما بعدما تم تصميمه في مدينة نابلس وشارك الأهالي في بنائه وتكفلوا تغطية نفقاته وهو عبارة عن لوحة رخامية ضخمة تحمل أسماء الشهداء تعلوهم منحوتة سورة الفاتحة. وفي 2006 شيد نصب تذكاري ضخم من تصميم الفنان إبراهيم حجازي مصنوع من الرخام الأسود من منطقة بحيرة طبريا الممتازة بحجرها البازلتي الأسود قاعدته لولبية الشكل رمزا للخلود والاستمرارية والمبنى يقوم على شكل هرمي مقلوب ارتفاعه سبعة أمتار ويشبه الوتد المنزرع في باطن الأرض رمزا للارتباط بالوطن. ويزدان النصب التذكاري بزخرفات إسلامية تظهر على شكل زنار يحضن العامود الحجري الأسود إيحاء للانتماء للحضارة العربية الإسلامية. ونحتت أسماء شهداء المجزرة كل في لوحة رخامية على شكل دائري في قاعدة النصب التذكاري تزدان في أيام الذكرى بأكاليل الورد.

المتحف

ولم تكتف كفرقاسم بالنصب التذكاري الضخم في مركزها، فأقاموا في ذات العام متحف الشهداء وهو من تصميم مهندس معماري عراقي سليم توفيق خياط. يضم مدخل المتحف خريطة للمدينة وصورا تاريخية وعملا فنيا تشكيليا ظريفا في وسطه شجرة صبار مع شيخ يصطحب صبيانا إيحاء بانتقال الصمود والبقاء من جيل لجيل. ويحتوي المتحف على صور وأسماء الشهداء والجرحى وملابسهم وأغراضهم الخاصة وكل ما كتب عن الملحمة بعدة لغات.

مساجد ومقامات

وفي كفرقاسم سبعة مساجد أقدمها مسجد أبو بكر الصديق الذي أنشئ في عهد الإمبراطورية العثمانية ويمتاز بجماليته العمرانية وبشموخ مئذنته الحجرية. وكان أطفال القرية يتعلمون في الكتاتيب منذ عهد الدولة العثمانية حتى أنشئت عام 1938 أول مدرسة أميرية وبدأوا ينتظمون في دراستهم بإشراف أحد المعلمين من مدينة نابلس، نور الدين الحنبلي.

مقام النبي حنا

ومن معالم كفرقاسم مقام النبي حنا في السهول الشمالية الغربيّة من البلدة وهو من الآثار الرومانيّة ويقال أيضا إنه من آثار إسلامية ومقام الزبيري من سلالة الزبير بن العوام. وتشير بعض الروايات الأخرى إلى أن عمر المقام لا يزيد عن 700 عام. واعتاد سابقًا القرويون في هذه المنطقة على وضع علب الكبريت والزيت وإضاءة القناديل فوق الضريح أملاً في جلب البركة. وفي وسط المدينة هناك مقام الشيخ الشهيد عبد الحافظ التركي أحد قادة صلاح الدين الأيوبي، على مسافة غير بعيدة عنه مقام محمد التركي وهو ضريح لأحد العلماء الأتراك الذين درسوا الدين الإسلامي واللغة العربيّة وطافوا بين القرى للتوعية ونشر الدين من جديد بين القرويين. لكن تاريخ كفرقاسم يعود لفترة اليونانيين القدماء إذ أن هناك خزان مياه صخريا هائلا يعرف بـ «بركة العامود» حفره الإغريق من أجل تجميع مياه الأمطار فيه لتظلّ متوفّرة طوال أيام السنة، ومن أجل زراعة الأرض وتزويد السكان ومواشيهم بالمياه. تقع البركة في الأحياء الجنوبيّة وقد تمّ ردمها بالتراب في نهاية السبعينيات من القرن الماضي كونها تشكل خطرا على حياة الناس وأقيمت فوقها حديقة عامة كما يؤكد عادل صرصور أستاذ التاريخ في المدرسة الثانوية الشاملة.
المحفور

ومن بين المعالم البارزة أيضا «المحفور» وهو جرن كبير جدّا صنعه الإنسان على مدار آلاف السنين وذلك بسبب طبيعة تربته المكوّنة من الطين الأبيض الجيري والذي استعمل في الماضي كمادّة جيّدة في بناء البيوت وتشييدها وصناعة الطوابين وتشييد الآبار وصناعة الخزف والفخّار. ولهذا السبب فقد اعتبر «المحفور» منجمًا طبيعيًّا أساسيًّا يزوّد جميع القرى والمدن المجاورة بهذه المادة لعدم وجود مادة الفحم الحجري الذي يدخل في صناعة الاسمنت. وظلّت تربة «المحفور» المصدر الوحيد للبناء في المنطقة إلى أن تم استبدالها بالاسمنت والاستغناء عنها. ويقع «المحفور» في الجهة الشمالية من مدينة كفرقاسم قرب مسجد صلاح الدين.

المزلقان

وهناك «المزلقان» وهو عبارة عن بيوت أثرية قديمة كانت في الماضي تتجمع فيها قوافل الحجاج وقوافل التجار المتجهة إلى مصر والشام وذلك لقربه من خان جلجولية القريب ومنابع نهر العوجا ومحطة سكة الحديد الآتية من اسطنبول. وفي فترة الانتداب البريطاني أصبحت منطقة «المزلقان» محطة يتجمع فيها أهل القرى في انتظار الباص الذي ظلّ يعمل حتى جلاء الإنكليز عام 1948 ولكن في ثمانينيات القرن الماضي، هدمت مباني «المزلقان» ولم يعد لها أثر يُذكر، وفي مكانها تمّ إنشاء جسر ضخم ومفترق طرق هام أطلق عليه اسم مفترق كيسم تحريفًا لكلمة قاسم وهي الجزء الثاني من كفرقاسم. وسمي «المزلقان» لأنه يقع في منطقة كانت تعتبر عند جميع سكان الشام منطقة محظوظة بمياهها وخصوبة أرضها واعتدال مناخها، لهذا فقد أطلق عليها العرب القدماء اسم – الميزان كان- ومع مرور الوقت تم تحريف الاسم. وكان «المزلقان» مدخل قرية كفرقاسم الوحيد من الجهة الغربية في الماضي. ولما وقعت مجزرة كفرقاسم قام الجنود بتجميع جثث الشهداء من أطراف القرية ووضعوها في شاحنة كبيرة وتم نقلهم إلى منطقة «المزلقان» حيث ألقوهم قرب المباني الأثرية بغية التعرّف عليهم.

كفرقاسم أمانة

وهؤلاء لا يحتاج الشيخ أحمد رابي (أبو محمد ) للتعرف عليهم فهو أحد الناجين من المجزرة رغم إصابته بطلقة في رأسه والذين يستذكرهم عن ظهر قلب. كان أبو محمد بالأمس يجلس في مدخل «بانوراما الشهداء» وهو يقول لنا وعلى مسامع طالبات من المرحلة الثانوية تحلقن حول :»كفرقاسم أمانة نتوارثها جيلا بعد جيل .. كفرقاسم رمز البقاء والصمود في وجه الغول وسط عتمة الليل». ناريمان عيسى الطالبة التي تطمح لدراسة الطب تعد الشيخ رابي بعدم نسيان الذاكرة والرواية وبنقلها لأبنائها وكل من تعرفه من عرب وعجم.