سمير عطا الله 

أواخر القرن التاسع عشر، في الرابعة عشرة من العمر، نزل من قريته إلى بيروت، وسافر منها إلى نيويورك مع عمه. سكنا في غرفة تحت الطريق، وعمل الفتى في دكان عمه. في الليل، راح يعلم نفسه الإنجليزية، وفي النهار، مدير حسابات ومبيعات الزيت والزيتون والحلاوة بطحينة. ثم اكتشف شيئًا يسمى المسرح، فالتحق بفرقة جال معها في الولايات، لكنها أفلست على الطريق. فعاد إلى نيويورك فوجد أن زوج أخته افتتح أول جريدة عربية، «الهدى»، فتسلم تحريرها وأخذ يكتب مقالاتها العاصفة. ثم نراه يترجم أبا العلاء المعري إلى الإنجليزية. ثم يعود إلى بيروت مسحوقًا بخيبة إليها. ثم عائدًا إلى باريس، ضيفًا على جبران خليل جبران. ثم نراهما في لندن. ثم نراه يصدر «كتاب خالد» بالإنجليزية. ثم مسرحية بالعربية، ثم يكتب الشعر ويرسم الكاريكاتير ويلقي الخطب ضد تزمت عشيرته. ثم يظهر في الجزيرة العربية طالبًا لقاء الملك عبد العزيز، وبعدها في بغداد والأهواز. ثم جائلاً الولايات الأميركية في قطارات البخار والسيارات الأولى. ثم مؤلفًا الكتب التي لا تزال مراجع إلى اليوم. يصاب بالأمراض والأوجاع، ويسافر، ويصاب بالوحدة فيكتب الشعر في مجلة «أتلانتك»، التي لا تزال تصدر إلى اليوم.
أعرف أنني كتبت شيئًا من هذا الكلام هنا قبل اليوم. وقد أكتب مثله فيما بعد. لأنني كلما عدت إلى قراءة أمين الريحاني، أصاب بما يشبه الدهشة الأولى، ولا أحاول مقاومة الكتابة عنه مرة أخرى. ودائمًا أتساءل كيف عثر على كل ذلك الوقت في 62 عامًا، ماخرًا البحار والمحيطات، عابرًا البراري والصحاري، منظمًا رحلاته مثل «توماس كوك»، واجدًا على الدوام واحة للظرف، داعيًا أبدًا إلى وحدة العرب، عاشقًا عن بعد جارات الدكان، حيث كان مدير المحاسبة والمبيعات والترويج، والتخطيط ورئيس قسم الترجمة لدى صاحبها الذي لا يجيد إلا كلمة «هاو دو يو دو»، وزبائنه الصينيين الذين يشترون وينحنون ويلغون حرف الراء من مشتراهم الوحيد، الرز!
أحيانًا أضحك أيها الريحاني، أحيانًا أتساءل، ماذا لو أنك عشت في عصر الطائرات والإنترنت والسفر من باريس إلى برلين بأربعين دولارًا، كيف كنت ستتصرف بوقتك؟ وهل كنت ستنضم إلى فرقة فون كاريان؟ يا رجل، اقرأ واضحك. كأنكَ فيلم صور متحركة في ديزني. نوع من جندي خيالي، مرة يعمل لاستقلال لبنان، ومرة لتأديب العالم أجمع، ومرة يؤدي دور هاملت، ومرة يدير شؤون المحاسبة في دكان تحت الطريق. قسم مبيعات الرز للصينيين.