عرفان نظام الدين

لا يجتمع عربيان إلا وتكون بينهما أسئلة تدمي القلوب، وهي: كيف وصلنا إلى هنا؟ ولماذا ضربت زلازل الحروب والفتن والأحقاد العالم العربي؟ وأين مواطن العِلل؟ وهل هناك أمل بإصلاح الأوضاع وشفاء النفوس للخروج من النفق المظلم والتعلم من عِبر التجارب العربية السابقة ودروسها، والأساليب التي اعتمدتها دول العالم لتأمين الاستقرار والأمن والازدهار؟ قائمة طويلة متاحة لمن يرغب في الاطلاع على الردود الواقعية والصريحة التي توضح لنا الأسباب التي أوصلت العرب إلى حافة الانهيار.

قد يحلو لبعضهم أن يضع على رأس القائمة المؤامرة الكونية وتبعات الاحتلال الصهيوني لفلسطين والحروب الإسرائيلية المتكررة، إلا أن المنطق يفترض وضع اليد على الجروح وتعداد عوامل أخرى، مثل غياب أسس الدولة الديموقراطية وقمع الحريات والعبث بالعقد الاجتماعي وانتهاك أبسط مبادئ حقوق الإنسان... والأهم من ذلك كله القطيعة بين السلطة والشعب، وانعدام الثقة بين الحاكم والمحكوم.

فقد تربينا منذ الصغر على القيم التي رسّخها الأجداد أسوة بالرسول الكريم الذي كرّمه الله بوصفه بأنه «على خلق عظيم»، وبالخلفاء الراشدين والحكام العادلين من بعده. ودرسنا عن مكرمات سيدنا عمر بن الخطاب وجولاته لتفقد أحوال الرعية وعن حكام آخرين كانوا يتابعون نبض الشارع، إلا أننا لم نعد نسمع عن حالات مماثلة في العصر الراهن إلا في دول الآخرين وكأننا نستمع إلى الإمام محمد عبده عندما سُئل عن مشاهداته في أوروبا وهو يقول: «رأيت إسلاماً ولم أرَ مسلمين. أما في ديارنا، فنحن نجد مسلمين ولا نجد إسلاماً».

تعليق موجع، لكنه واقعي خصوصاً في هذه الأيام ونحن نتابع ما يجرى في العالم وكيف يتصرف القادة وكيف تحاسب الشعوب. وقد جمعت خلال أيام بعض الأمثلة المعبرة:

- رئيس الوزراء البريطاني السابق ديفيد كامرون سارع إلى تقديم استقالته فور ظهور نتائج الاستفتاء على الخروج من الاتحاد الأوروبي الذي طرحه أملاً بفوز خيار البقاء، ثم ألحق استقالته بالتخلي عن مقعده في مجلس العموم البريطاني ليفتح المجال لمن يستطيع أن يخدم البلاد أكثر منه على رغم أنه ما زال شاباً وكان له مستقبل واعد، إلا أنه آثر الانسحاب، حرصاً على الاستقرار ومنع وجود أزمة تضر الشعب.

- التداول على السلطة طبيعي في معظم دول العالم، إلا في بلادنا غير العامرة. ونشهد هذه الأيام قرب مغادرة الرئيس الأميركي باراك أوباما للبيت الأبيض وتغييرات كبيرة في أوروبا تخضع لرأي الشعب ونتائج صندوق الاقتراع، وليس لأي سبب شخصي أو مصلحي لأن المنصب ملك الشعب وكرسي الرئاسة ليس ملكاً للرئيس أو أي مسؤول آخر.

- رئيس البرلمان الألماني طرد المستشارة (رئيسة الحكومة) أنغيلا مركل من الصفوف الأمامية، لأنها تكلمت من دون إذن!

- رئيس وزراء كندا الشاب جاستين ترودو ينزل إلى الشوارع يومياً ويتفقد شؤون الناس ويرحب باللاجئين السوريين ويشارك المسلمين أعيادهم.

- رئيس وزراء النروج يتفقد المواطنين متنكراً بزي سائق تاكسي لأن الناس يتحدثون بصراحة في السياسة والشؤون الخاصة والحياتية إلى السائقين.

- الرئيس البرتغالي سافر إلى باريس لحضور المباريات النهائية لمنتخب بلاده في بطولة أوروبا لكرة القدم على نفقته الخاصة، لأنه لا وجود لمخصصات في موازنة الرئاسة لحضور مثل هذه المناسبات.

- البابا فرنسيس يتجول بين الناس ويتحدث إليهم ويسألهم عن أحوالهم ويصرح علناً بأن الإسلام دين تسامح وسلام وأن المسلمين بمعظمهم ليسوا إرهابيين.

هذا غيض من فيض الأمثلة الكثيرة في مقابل أوضاع سيئة وانعدام الثقة ووجود أزمة حقيقية وهوة شاسعة بين السلطات والشعوب نتيجة قطع أوصال العلاقات وعدم الاستماع إلى أنين المعذبين وصرخات المحتاجين، والتعالي وغياب المحاسبة، إضافة إلى علل أخرى أبرزها غياب الديموقراطية والعدالة وقمع الحريات والاستئثار بالحكم وإقصاء كل من يخالفنا الرأي.

في علم النفس، يُطلب من المريض أولاً أن يعترف بوجود علة وبأنه مريض يحتاج إلى علاج، إلا أن العقد المستأصلة في النفوس والعقول تكبح أي اعتراف بالحقيقة. كما أن العناد المتحكم بالممارسات يسد طرق العلاج ويخرب أي جهد لحل العقد ويعمّق المشاكل والأزمات.

والمؤسف أن كل واحد منا يعرف مواطن العلل ويعددها ويشتكي منها ويجلد الذات وينتقد الآخر ويتهمه ويضع كل المصائب على شماعة التبريرات ويقدم الحجج الواهية.

وكنت أحاول دائماً أن أعدد العلل بالجملة والمفرق، إلا أنني لم أجد معبّراً أفضل عن الواقع من الخبير الياباني نوبواكي نوتوهارا الذي تنقل بين الدول العربية لأكثر من أربعين سنة، وعاش مع مختلف الطبقات والمشارب ليجمع انطباعاته في كتاب «العرب... وجهة نظر يابانية» أنقل هنا بعضاً منها:

- العرب متدينون جداً، لكنهم فاسدون جداً، ومشكلتهم أن الدين أعطاهم العلم ولم يجتهدوا للبحث عن الجديد (مع أننا نؤمن بأن تعاليم الإسلام هي لكل زمان ومكان).

- في مجتمع كالمجتمع الياباني تستمر الجهود للبحث عن الحقائق الجديدة، بينما يكتفي العرب باستعادة الحقائق التي اكتشفوها في الماضي البعيد.

- السجناء السياسيون في البلاد العربية ضحوا من أجل الشعب، لكن الشعب نفسه يضحي بأولئك الشجعان، فانعدام حس المسؤولية طاغٍ في مجتمعاتهم.

- لا يزال العرب يستخدمون القمع والتهديد والضرب خلال التعليم، ثم يسألون: متى بدأ القمع؟

- المجتمع العربي مشغول بفكر النمط الواحد، على غرار الحكم الواحد. وأستغرب لماذا تستخدم كلمة «ديموقراطية» في العالم العربي.

- الحكومات لا تعامل الناس بجدية بل تسخر منهم وتضحك عليهم.

- العرب مورست ضدهم العنصرية، ومع هذا فقد شعرت بعمق أنهم يمارسونها ضد بعضهم بعضاً.

- حين يدمر العرب الممتلكات العامة يعتقدون أنهم يدمرون ممتلكات السلطة وليس ممتلكاتهم.

- عقولنا في اليابان عاجزة عن فهم أن يمدح الكُتّاب السلطة، أو أحد أفراد السلطة.

- لماذا لا يستفيدون من تجاربهم، ثم يكررون أخطاءهم؟

- الشعور بالاكتئاب والتوتر سمة عامة للمجتمعات العربية: توتر شديد ونظرات عدوانية تملأ الشوارع.

- لكي نفهم سلوك الإنسان العربي، علينا أن نتنبه دوماً إلى مفهومي الحلال والحرام.

- على العرب أن يفهموا التجربة اليابانية، فسيطرة العسكر على الشعب هي سبب دخول البلاد في حروب مجنونة. وفي اليابان قيادة الدولة المعاصرة أكبر من إمكانات أي شخص مهما كان موهوباً وقوياً، وبهذا نضمن عدم ظهور مركزية فردية مهيمنة... والحال مختلف عند العرب.

- الرجل العربي يلح في البيت على تعظيم قوته ورفعها إلى السيطرة والزعامة... أما في الحياة العامة فيظهر وفق قدراته في مظهرين متناقضين.

ومع هذا، لابد من التحفظ عن بعض الانطباعات وانتقاد أسلوب التعميم على الشعوب العربية والأفراد في شكل شمولي. فقد يكون الكاتب أخطأ في التركيز على بعض الصفات أو بالغ فيها، كما أنه أخطأ في التعميم، وهذا تصرف غير موضوعي، لكن الإطار العام للانطباعات التي وردتني عبر «فايسبوك» يعبّر عن الواقع في شكل أو في آخر.

وما علينا إلا أن نأخذ العبر والدروس من أي رأي أو موقف والامتناع عن تكرار الأخطاء التي أدت إلى وقوع الكوارث والويلات التي تشهدها الدول العربية هذه الأيام. وعلى العرب قبل كل شيء أن يغيروا ما بأنفسهم، فـ «إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم»، ومن هنا تكون البداية حتى لا أكرر طرح الأسئلة عن لماذا وكيف وصلنا إلى هنا؟