بكر عويضة

بلا أي تقليل من أهمية الطموح ونبله، ليس المهم أن يعتلي محمود صباغ خشبة أكاديمية فنون وعلوم الصور المتحركة بلوس أنجليس، في فبراير (شباط) المقبل كي يتسلم أوسكار فئة الفيلم الأجنبي، إذا فاز فيلمه «بركة يقابل بركة»، إنما الأهم أن مخرجًا سعوديًا لم يزل في مقتبل مشوار تجربة العمل السينمائي، أمكنه أن يصل بمستوى عمله إلى الترشح لإحدى منصات أكبر وأهم مهرجان عالمي للفن السابع. ذلك في حد ذاته نجاح كبير، ليس فقط للشاب محمود صباغ، بل لبلده ومواطنيه، ومعهم العرب أجمعون.
خلال عشاء تكريمي للسيناتور جورج ميتشيل دعا إليه الشهر الماضي عثمان العمير، الصحافي المتجدد دائما، مبتكر «إيلاف» - أول يومية على الإنترنت - رئيس تحرير «الشرق الأوسط» الأسبق، التقيت محمود صباغ وزوجته، إذ كانا يحضران مهرجان لندن للسينما، وإذ قلت إن صدفة اللقاء بهما تستحضر على الفور مدى اهتمام وسائل الإعلام البريطاني بالمخرجة السعودية هيفاء، سارع محمود يكمل اسمها، قائلاً: المنصور، ثم واصل: طبعًا، هيفاء المنصور جديرة بذلك.
حصل ذلك الاهتمام قبل أكثر من عام، عندما لفتني حرص القناة الرابعة في التلفزيون البريطاني على تكرار بث إعلان ترويجي يحث المشاهدين على ترقب عرض فيلم «وجدة»، باعتباره أول فيلم لمخرجة سعودية يُعرض على شاشة بريطانية. بالطبع، لن أضيف جديدًا إذ أسجل الآن إعجابًا بما شاهدت، بل الأرجح أن «وجدة» فاز بإعجاب معظم النقاد المختصين، وحاز قبول أغلب المشاهدين. مع ذلك، يبقى من الواجب تسجيل التقدير للقناة الرابعة، ولو متأخرًا، ذلك أن مجرد إقدامها على عرض الفيلم كسر قالب صورة نمطية تعتمدها أكثرية إعلام بريطانيا، وتصر على تكرار الحديث عن جوانب سلبية، كلما تعلق الأمر بالمرأة السعودية. وقبل ثلاثة أعوام، حققت المخرجة السعودية عهد كامل نجاحًا مهمًا في مهرجان برلين السينمائي، عندما دخل فيلمها «حرمة» مسابقة المهرجان الرسمية للأفلام القصيرة. الأمر المؤكد هو أن الجيل الشاب (ما بين العشرين ومنتصف الأربعين) في المملكة العربية السعودية زاخر بإمكانات هائلة تُزهر في مجالات العطاء كافة، ومنها فضاء الإبداع الفني بمختلف الميادين. أمر مؤكد آخر هو أن الاحتياطي الأهم للدول، ومنها السعودية، موجود دائمًا في طاقات الجيل الشاب، حيث يجب أن ينصب اهتمام الاستثمار الحقيقي للمستقبل. فيما يخص نصيب الدولة من تلك المسؤولية، يستطيع أي مراقب محايد، حريص على المتابعة من بعيد - كما حالتي - ملاحظة محاولات سعودية جادة لتوجيه دفة التخطيط للمستقبل نحو بنك الاستثمار ذاك، أعني الجيل الشاب، وإلا كيف يمكن فهم معنى «رؤية 2030» وطموحها بعيدًا عن هذا السياق تحديدًا؟
أربعة عشر عامًا ليست تلك المسافة البعيدة في حساب الزمن الآتي. شبان السعودية وشاباتها المقدّر لهم ولهن بلوغ العام الثلاثين سنة 2030، هم الآن وهن في السادسة عشرة من العمر. يمر بي أحيانًا خاطر التساؤل عما إذا تم إجراء دراسات ميدانية تبحث في التطلعات المستقبلية للشباب، وما إذا كانت اهتماماتهم الآنية، بدءًا من البيت ومرورًا بالمدرسة، وانتهاءً بما يشغلهم على الإنترنت، تنسجم مع تطلعاتهم للمستقبل. مثلاً، كم هي نسبة المهتمين والمهتمات بالحقول العلمية التطبيقية، أو المجالات النظرية والفنية الإبداعية، وكم هي نسبة غير المكترثين إطلاقًا بتحصيل شهادة جامعية، لأنهم يتطلعون إلى اقتحام المجال التجاري والأعمال الخاصة والانطلاق فور إنهاء مرحلة التعليم الثانوي بعصامية ذاتية؟ لعل هذه البحوث الميدانية، أو ما يماثلها تم بالفعل، أو أنها قيد الإتمام، آمل ذلك، فما من مستقبل مشرق بلا تخطيط مسبق، تلك إحدى الحقائق البدهية التي عرفتها مجتمعات البشرية قاطبة منذ زمن سحيق. وفي السياق ذاته، يلفت النظر أن نظرة المسؤول تسبق أحيانًا بساطة النظرة للمستقبل من جانب المواطن. مثال ذلك ما لاحظت عندما جرى إطلاق «رؤية 2030» في أبريل (نيسان) الماضي، إذ سارع بعض من نشطاء «تويتر» السعوديين إلى الاعتراض على تضمين الرؤية منح ذوي الكفاءات الأجنبية المقيمين في السعودية حق الإقامة الدائمة، وفق نظام «البطاقة الخضراء». ومع أخذ مخاوف ذلك الجمع على تقاليد بلدهم وعاداته، فإني عجبتُ لضعف ثقتهم بقدرة مجتمعهم على حماية تميّز ثقافته من دون أي خوف أمام ضرورة التجديد.
عودٌ على بدء، أختم بالتمني أن يفوز محمود صباغ وفيلم «بركة يقابل بركة» بأوسكار فئة الفيلم الأجنبي، وأن تنطلق مواهب جيل الشباب السعودي نحو آفاق أكثر رحابة في مجالات العطاء والتفوق كافة، ذلك أن أوسكار السعوديين الدائم، وكذلك العرب كلهم، هو في استثمار يؤمن أفضل الممكن لبناء غدٍ أجمل.