سمير عطا الله

 قليلة هي الأخبار الطيبة التي ترد من فلسطين هذه الأيام. وما من أخبار سياسية جيدة تأتي من أي مكان في أي حال. الأخبار الطيبة التي لا تتوقف عن الورود، رغم تكرار مواسم القحط، هي غالبًا المتعلقة بحضارة العرب وآفاقهم وحنينهم الأدبي إلى المسارات الحضارية. تنقل «الفايننشيال تايمز» من رام الله في اندهاش غير مألوف بالصحافة البريطانية، عن موجة عمار ثقافي، بدأ في أن يصبح صرحًا بيّنًا في المدينة الصغيرة.
«المتحف الوطني» الذي أُنشئ حديثًا، وقُبالته مجمّع ثقافي يفوقه بأضعاف، هو المركز الذي أنجزته للتو مؤسسة عبد المحسن القطّان. تصف الصحيفة هذه التلة الثقافية بـ«المشروع العملاق» وتفرد حكاية الفصول التي بدأتها المؤسسة عام 1993، عندما قررت أن الحماية الأفضل للهوية الفلسطينية هي من خلال الصروح الثقافية. ولم تترك للإسرائيليين وحدهم هذا الحق والمضي في البحث عن أي ورقة ثقافية من أجل تحويلها إلى سمعة حضارية في مواجهة الينابيع العربية، وما أكثرها وما أكثر ضياعها.
بعد تجربة طويلة في السياسة، ختمها برئاسة المجلس الوطني الفلسطيني الثالث، قرر المفكر عبد المحسن القطان، أن العمل الحقيقي سوف يكون في دعم الإنسان الفلسطيني الواحد، بعيدًا عن صراعات الفصائل وتجاذبات المتحاربين. شدد أولاً على الدعم الصحي من خلال «مؤسسة التعاون» التي في جنيف، والتي أسسها مع كبار الرفاق البارزين أيضًا في حقل المال والاستثمار. ثم بدأ، منفردًا، بإنشاء المؤسسة الخاصة الحاملة اسمه، التي تسلم إدارتها نجله عُمر. خلال عقدين، تحولت أعمال المؤسسة التربوية ما بين لندن وغزة والضفة، إلى حجم يوازي أعمال وزارات التربية. استندت المؤسسة منذ إنشائها إلى الموازنة الكبرى التي خُصِّصت بهدف تأمين الاستمرارية. ولا تذكر «الفايننشيال تايمز» ما هو حجم رأسمال المؤسسة، لكنها تذكر على سبيل المثال، أن جزءًا من أعمالها كان المشاركة في بناء المتحف الوطني الفلسطيني. صنع عبد المحسن القطان ثروة العائلة في الكويت، التي ذهب إليها موظفًا كبيرًا في الخمسينات. وعندما قرر التقاعد وتوزيع الإرث على الأبناء، قرر هو وزوجته ليلى، أن تُعطى أولاً الحصة المفروضة لأبناء فلسطين. وبعدما كان عُمر القطان قد قطع شوطًا طويلاً في عمله الأساسي، أي الإنتاج السينمائي، الذي كرّسه أيضًا للفن الفلسطيني، وجد أن عليه الانصراف كليًا إلى إدارة المؤسسة الرعائية بالدرجة الأولى.
عقدان ومؤسسة عبد المحسن القطان تزدهر وتتقدم وتتوسّع، فيما السياسات الفلسطينية تتناقض وتُعرقل وتؤخر. مثله في مؤسسة التعاون، مثله في مؤسسته الخاصة، يُفضّل عبد المحسن القطان العمل الصامت. لكن تأتي صحيفة كبرى مثل «الفايننشيال تايمز» باحثة عن الصفحات البيض في متاهات المحنة الفلسطينية، وتطالعها كما طالعتنا في العالم العربي منذ نصف قرن على الأقل، شخصية الرجل الذي بذل في تعليمه أبناء فلسطين آلاف الأضعاف مما بذل في تعليم أبنائه.