نادية الشهراني

على هيئة حقوق الإنسان أن توجّه خطابها التوعوي للأطفال أولا كما يحدث في العالم، نبهوهم إلى حقوقهم على أسرهم فالحياة مع أسرة مجنونة جحيم لا يحتمل ومعركة لا ينبغي أن يخوضها الطفل وحده

تكرر الإذاعة البريطانية على مسامع متابعيها إعلانًا كل صباح مفاده (إذا لاحظت أي إساءة أو تعنيف بلِّغ عنها فقد تكون الشخص الوحيد الذي لاحظ). بهذا الإعلان تقوم الإذاعة بدورها في توعية المجتمع ليواجه مظاهر العنف الصغيرة، فالعنف مثل كرة الثلج، يبدأ صغيرًا ثم يكبر، وتستمر ممارساته المؤلمة بالازدياد ما لم يتم كسر دائرته ومعالجة الضحايا وسنّ القوانين المنظمة للحياة وحماية تطبيقها.
لم يعد يمر أسبوع دون أن نشاهد مقطعا أو نسمع قصة عن تصرفات مفرطة في العنف أبطالها يمشون في شوارعنا ويعيشون بيننا. عنف لا يفرِّق بين ضعيف أو قوي، عنف بلا سبب أحيانًا إلا العنف بحد ذاته، وهذا من وجهة نظري مؤشر خطير لانحدار إنسانية بعض أفراد مجتمعنا وعدم فعالية الأنظمة المعمول بها حاليًا في حماية الضعيف من القوي سواءً كان هذا الضعيف قطة أو طفلا أو عاملا أو امرأة أو مسنا.
مظاهر العنف صادمة ومؤلمة، ترى مثلًا شابًا مكتمل الصحة يمسك بقطة لا حول لها ولا قوة ليرمي بها بكل ما آتاه الله من قوة على جدار فتنتفض وتلفظ أنفاسها وهو يضحك بهستيريا، وصاحبه يصوِّر موثِّقا اللحظة العظيمة لسقوطهما في اختبار الإنسانية! كيف لهذا الشخص أن يتطبع بالتعذيب ويرى فيه مادةً للفكاهة لا خلل في تصويرها ومشاركتها مع الآخرين؟ كيف تواطأ شابان على هذه الجريمة بحق مخلوق ضعيف قاده سوء حظه ليكون في طريق هذين المريضين؟ ما الذي دار في العقلين الصغيرين في رأسيهما الكبيرتين في تلك اللحظة؟ 
لطالما آمنت أن مثل هذا العنف ليس وليد اللحظة بل هو أسلوب حياة، إذ يكبر المعنَّف وهو لا يرى أسلوبًا غيره ولا يعرف سواه، فيعتقد أن الحياة غابة تغيب فيها قيم الرحمة والتعاطف والإنسانية. للأسف إن سكوت الغالبية عن هذه الممارسات ساهم في ازديادها، في الدول المتطورة يحاكَم الصامتون والسلبيون في مواجهة العنف كشركاء فيه، ففي مثل هذه الحالة يكون الصمت تهمة وليس حكمة.
ثم إنه أتى علينا زمان وسائل التواصل والهواتف الذكية، وأصبح البشر آلات تسجيل متحركة فصرنا نرى الأمهات يوثِّقن تعنيف أبنائهن ويتباهين بقسوتهن وغلظتهن، وقد تزعم أنها تربّية وتطلب بكل صفاقة من غيرها من الأمهات أن تحذو حذوها لكي ينضبط النظام والنظافة في البيت، فكأن هذا الطفل رهينة عندها يموت ويحيا بأمرها وإرادتها. قد يقول أحدهم إنها تربّية لكن النوايا الطيبة لا تكفي وهذا العنف المفرط سهم مسموم سيرتدّ بويلاته على المجتمع بأكمله. التعنيف اللفظي والنفسي لا يقل قسوةً عن التعنيف الجسدي، فالأم التي حلقت شعر ابنتها بعد علمها باستهزائها بإحدى زميلاتها المصابات بالسرطان مارست سلطة الأمومة التربوية بعنف، وأظن أن ضعف تعاطف ابنتها مع الآخرين هو انعكاس لقسوة الأم بشكل أو بآخر، ولو أنها سجلتها كمتطوعة مع مرضى السرطان لكان أجدى تربويا لترى المعاناة وتستشعر آلام الآخرين، ابنتها الآن ستتذكر الألم وقد لا تتعلم من التجربة، لكن جعلها تعبر قنطرة الألم مع المصابين بالسرطان قد يصنع تغييرا إيجابيا في سلوك ابنتها.
يرى الفيلسوف النمساوي كارل بوبر أن: (الإنسان يقترب من الحضارة بمقدار ابتعاده عن العنف لأن الحضارة ترتكز أساسًا على تقليص العنف في المجتمع)، ولذلك فكل ممارسة يقرّها المجتمع لنقل أفراده من خانة العنف والتعنيف تساهم بلا شك في تحريك عجلة الحضارة. 
تتحمل هيئة حقوق الإنسان مسؤولية ضخمة في استعادة الرفق من سارقيه، ولن يتم هذا إلا بقوة التوعية وتطبيق الأنظمة خاصةً ما يتعلق بحماية الأطفال من جنون ذويهم. على الهيئة أن توجّه خطابها التوعوي للأطفال أولًا كما يحدث في العالم، نبهوهم إلى حقوقهم على أسرهم فالحياة مع أسرة مجنونة جحيم لا يحتمل ومعركة لا ينبغي أن يخوضها الطفل وحده، خاطبوهم في المدارس وفي الأسواق والإعلام الجديد وفي مقاطع اليوتيوب. على علماء الاجتماع والمتخصصين في علم النفس والإعلام كذلك دراسة هذه الظواهر من وجهة نظر المعتدي والضحية، وعليهم وضع خطط عملية لمساعدة الأسوياء في المجتمع على محاربة هذا الوباء. أما من يصرّون على أن أفراد المجتمع سابقا تربّوا بهذه الطريقة ولم يتضرروا فلن أحيلهم لما أثبتته الدراسات النفسية، مع إيماني التام بضرورة الاطلاع عليها، لكن أريدهم أن يسمعوا مرةً أخرى ما قالته الأم في المقطع الأخير الصادم (أمي عودتنا على كذا) ليتخيلوا حجم الضرر الذي تعرضت له السيدة في طفولتها والذي ينعكس الآن على تربيتها لأطفالها. 
كلّنا نتاج معالجتنا الخاصة لما نتعرض له في الطفولة.