إبراهيم المطرودي

حديث هيجل عنا كحديثنا عن غيرنا، هو وجهة نظر، يُبديها المرء حسب ما لديه، ويقولها وفق ما عنده، وينتزعها من عصره الذي عاش فيه، وتكوّن من أزواده، فهو يعزو الرأي إلى ما حصّله، وينسبه إلى ما يعرفه، ويعود به إلى أفق المعرفة الإنسانية في زمنه، فالإنسان يُحتجز، مهما بلغ ذكاؤه، في أمرين؛ أولهما طاقاته وقدراته وآماله، وثانيهما عصره الذي نبت فيه، وترعرع على شواطئه.

وإذا كان المرء يُمدح بالأول ويُذم، ويكبر في عيون أهل عصره ويصغر؛ فهو مُلامٌ حين يغفل عن تحديات عصره، ويسهو عن سياق المعرفة فيه، ولا فرق بين إنسان يكفّ عن شحذ طاقاته، ويغفل عن استغلالها، وبين آخر تغيب روح عصره عن خطابه، ويتعلّق لسبب أو آخر بعصر لم يعش فيه، ولم يكن أحد أفراده، ويبذل جهده أن يرى العالم من خلاله، ويرسم مستقبله بما كان شائعا في أثنائه.

لا فرق بين ابن خلدون العربي الشرقي وبين هيجل الغربي في العنصر الأول من العنصرين اللذين يُحتجز فيهما الإنسان، وهو الطاقات الفردية والقدرات والآمال، وإنما الفرق كله في العصر الذي ينتميان إليه، ويعيشان تحت سقفه

وما يطرحه الإنسان من رأي، ويفوه به من قول، مرهون بهذين العنصرين، ودال عليهما؛ فآراؤنا تكشف عن طاقاتنا وقدراتنا وآمالنا، وتُري غيرنا صورة عصرنا الذي عشناه، سواء اندمجنا به وتمثّلناه أم انتقدناه وتعاركنا مع بعض ما فيه، ونحن حين نقرأ لفرد، قديم أو حديث، نرقب هذين الأمرين، وتتجه عنايتنا إليهما، ونخرج بعد قراءته، وقد عرفناه، وتعرّفنا على عصره الذي عاش فيه، وكان أحد ممثليه، واستطعنا أن نحكم بأثره في عصره، وأثر عصره عليه، وتلك غاية من غايات القراءة، وهدف من أهم أهدافها.

ويفتح هذا للقارئ، وهو نهج معروف، مسارين لدراسة الإنسان، أيِّ إنسان؛ مسارا فرديا مداره على صفاته وخلاله، وثمرته تقييم تلك الصفات والخلال، ومسارا عصريا اجتماعيا قيامه على تقييم علاقة الإنسان بعصره، وعلاقة عصره به، وهما مساران ينبني عليهما ما يُقضى به للمرء من حسن وغيره، وإليهما يعود مدحه والثناء عليه، وعنهما يصدر نقده وتوجيه اللوم له.

كان لهيجل حديث عن الشرقيين، ومنهم العرب، وكان لبّ فكرته عن الشرق أنه: «لم يعرف، ولا يزال حتى اليوم لا يعرف سوى أن شخصا واحدا هو الحر، وأما العالم اليوناني والروماني فقد عرف أن البعض أحرار، على حين أن العالم الجرماني عرف أن الكل أحرار»، تلك صورة الشرق عند هيجل، ووجدت في آداب العرب، وتركة المسلمين الشرقيين، ما يؤكد رؤيته، ويُصدّق ظنه، وبقي عليّ أن أقرن بهيجل غيره، وأرى ما يقوله فيهم، ووقع اختياري على ابن خلدون، ورأيته نموذجا صالحا للمقارنة بهيجل، وإن اختلف عصر الرجلين، وكان بينهما قرابة خمسة قرون؛ فالمقارنة بين المختلفين، زمانا ومكانا وثقافة، أعود على مَنْ يريدها، ويسعى أن يتعلّم منها، والمقابلة بين المختلفين تشحن الذهن، وتوقظ قواه، وتوقد همته، ويجني منها الساعي ما لا يتوقعه، ولا يخطر بباله، وهذا ما أعزم عليه في قضية الموقف من العرب؛ لأنني أولا مهموم بهم، وثانيا مهموم بأثر العصور على الناس في تصوراتهم، وأحسب المقارنة سبيلي إلى تحقيق هاتين الغايتين، فبها أعرف ما يُثار حول العرب وعيوبهم، وأطّلع على أثر العصور في تشكيل رؤى المفكرين وبناء مواقفهم.

حين ننظر إلى هذين الرجلين، وأولهما ابن خلدون المتوفى عام ستة وأربع مئة بعد الألف الميلادية، وثانيهما هيجل المتوفى عام واحد وثلاثين وثمان مئة بعد الألف، نرى كثيرا من الكتّاب والمفكرين والمثقفين يثنون عليهما، ويمتدحون طاقاتهم، ويعدونهما من خير رجال الفكر والنظر، فهما سواء أو كالسواء في الصفات الذهنية والسمات العقلية، وعلى أمثالهما تُبنى العقلية النافعة، وتُستخرج الطاقات الفردية الكامنة، فخير ما ينفع المرء ويُفيده أن يقصر نفسه على قراءة الأعلام، وإحصاء آثارهم، وسبْر ما تركوه، والتأمل لما أفادوا البشرية به.

لا فرق بين ابن خلدون العربي الشرقي وبين هيجل الغربي في العنصر الأول من العنصرين اللذين يُحتجز فيهما الإنسان، وهو الطاقات الفردية والقدرات والآمال، وإنما الفرق كله في العصر الذي ينتميان إليه، ويعيشان تحت سقفه؛ فابن خلدون، وهو من أهل القرن الثامن الهجري، عاش عصرا كان العرب فيه أمة ضعيفة مشتتة، كبّلها الضعف، ونزل بها الانحلال، وكان منتظرا منه، وهو العربي الخضرمي، أن يصف الدواء الناجع لتلك الأمة التي أدركتها سنة الأمم، وحلّ بها ما حل بغيرها من شتات وضعف واستكانة، وأن يُمثّل تحديات الأمة العربية في عصره، ويُقدّم لها الأمصال الفكرية التي تكشف مرضها، وتصف حالها، وتُشارك بعد ذلك في التعافي مما أصابها، ومزّق جسدها، ونحل هيكلها، وعلى قدر ما قدّمه ابن خلدون في هذا ستكون مكانته، وسيصبح قدره، وتلك قضية أُرجئُ القول فيها إلى المقال القادم إن شاء الله.

وأما هيجل فقد عاش في العصر الحديث، واستظل بظله، ونشأ بين يدي عصر التنوير، وكان أحد المتأثرين به، واشتق من مبدأ الحرية الذي كان شغل الفلاسفة في تلك الحقبة معيارا ينظر من خلاله إلى تأريخ الشرق والغرب، ويُقسّم في ضوئه التأريخ الإنساني، فكان من نصيب الشرق ما تقدم في المقالات السابقة، وهو لهذا ممثل لروح عصره في النظر، وموسع لتوظيف مفهوم الحرية: «فتأريخ العالم ليس إلا تقدم الوعي بالحرية» (العقل في التأريخ، 88)، ويبقى بعد هيجل وعصره معرفة ما كان حال ابن خلدون مع العرب وعصره الذي عاش فيه؟