إياد أبو شقرا

 ساعات معدودات فصلت بين صورة شاغلي «الرئاسات الثلاث» في لبنان بقصر الرئاسة في بعبدا، وإعلان إحدى المنظمات السورية لحقوق الإنسان عن خطف ضابط سوري فارٍ داخل الأراضي اللبنانية وتسليمه إلى نظام بشار الأسد..
الصورة الجامعة في قصر بعبدا، الملتقطة بعد ما يوصف بإنهاء «الفراغ» وانتخاب «رئيس صنع في لبنان»، لا شك، تاريخية سواء كانت «فولكلورية» أم لا. فعلى امتداد السنوات العشر الأخيرة صار من الأهمية بمكان «انتخاب» رئيس يتمتع بحيثية شعبية، ولا يُجدّد له بصورة استثنائية وفق إرادة خارجية معلنة ومباشرة. ولا يقل أهمية أن يلتقي الأضداد، أو قُل من اعتاد الشارع السياسي اللبناني على اعتبارهم «صقور» طوائفهم والمنافحين عن حقوقها.. إن لم نقل أطماعها وحصصها في كعكة السلطة.
كان مشهد «الثلاثي الرئاسي» عون – برّي – الحريري سيرياليًا بقدر ما هو أشبه بفرصة لالتقاط الأنفاس وطمأنة النفوس، ولو كان العقلاء يشدّدون على «الأصل» ولا يتوقفون طويلاً أمام بهاء «الصورة».
إلا أنه لم يمر سوى بضع ساعات حتى جاء حدث يذكّر اللبنانيين بأنهم، ومعهم قادتهم، قد يتبادلون اللياقات والتجمّلات، صادقها وكاذبها، وقد يعنون أو لا يعنون وجود نية في طي صفحة الماضي البائس، لكن الحقيقة أن في لبنان «سلطتين»: سلطة التمنيات والبروتوكول الدستورية، وسلطة «الأمر الواقع» الأقوى بمراحل من الدستور.. بل من الوطن المفترض به أن يظلله هذا الدستور.
وبالأمس، مع مرور خبر خطف الضابط السوري سليمان سلّوم، الذي اتهمت جماعات على صلة بـ«حزب الله» بخطفه، مرور الكرام أمام اللبنانيين، بدأ الحالمون منهم يفركون أيديهم تشوّقا لبدء «لعبة» جديدة تسلّيهم وتشغلهم عن حقيقة لا أحد منهم يودّ الإقرار بوجودها.. هي لعبة تشكيل الحكومة العتيدة.
من حيث المبدأ فإن تشكيل الحكومة، في أعقاب ملء منصب رئاسة الجمهورية لأول مرة منذ نحو سنتين ونصف السنة من الشغور أو «الفراغ»، خطوة إيجابية جدًا تعزّز الشعور العام بالارتياح. لكن كما يقول المثل «ليس كل ما يلمع ذهبًا»، وإذا كانت تجارب الماضي لتعطينا فكرة على ما يمكن أن يحصل، فإن تطبيع وجود الدولة «الدستورية» سيبقى مسألة كسب وقت في ظل استمرار توسّع «دولة الأمر الواقع»، وتزايد سطوتها محليًا وإقليميًا في ظل هجمة إيرانية – روسية ومواقف أميركية ملتَبسة تعطي إشارات متناقضة وتشجّع عددًا من اللاعبين الإقليميين على الانخراط في رهانات انتحارية.
اللبنانيون، ببرغماتيتهم المعهودة يريدون أن يتفاءلوا، ولا سيما مع قرب انتهاء حقبة «الضبابية» الأميركية القاتلة التي صارت عنوانًا للفترة الثانية من رئاسة باراك أوباما في الشرق الأوسط، بانتخاب رئيس جديد (أو رئيسة جديدة). وثمة من يقول إن أتباع إيران في المنطقة العربية ابتلعوا أكثر مما يستطيعون هضمه في وقت قصير.
كذلك هناك من يشير إلى أن كائنًا من كان شاغل المكتب البيضاوي الجديد في واشنطن، فلن تتمتع موسكو بالقدرة نفسها على المناورة كما تفعل اليوم. ومع أن ما يصدر عن المرشح الجمهوري دونالد ترامب ينمّ عن رهانه على «صداقة» فلاديمير بوتين وسعي بوتين الجدّي لضمان فوز ترامب بالرئاسة بشتى الوسائل، فإن ما تبقى من اليمين الأميركي المحافظ لن يرتاح كثيرًا لتضاؤل نفوذ واشنطن في الشرق الأوسط. ولن تكون طهران – بدورها – في وارد تغيير جلدها ومواصلة «الرقص على التناقض» المصلحي بين واشنطن وموسكو.
ثم إن «الفوضى» التي تزرعها أطماع إيران وغطرسة موسكو وتناقضات واشنطن، على امتداد الشرق الأوسط، ستبلغ – على الأرجح – في مرحلة ما «سيناريوهات» حاسمة لا تعود معها تتقبل الشيء وضده في آن. وبصرف النظر عن حسابات إسرائيل القصيرة الأمد والطويلة الأمد، وهواجس تركيا «السنّية» و«الكردية» و«الروسية»، فإن أزمات دول المنطقة في حد ذاتها باتت أسوأ من أن تتمكن الوصفات الداخلية وحدها من حلها. وهذا يعني أن على القوى الكبرى، وبالأخص واشنطن، محاولة احتواء الخطر الذي يرجح أن ينجم عن هذه الأزمات بكل مضامينها المعيشية والفئوية والأمنية.
من ناحية أخرى، إنّ جعل مكافحة «داعش» استراتيجية عالمية من دون التمعّن الموضوعي في حقيقة هذا التنظيم الإرهابي والتمويه المتعمّد على تركيبته وغاياته، والولاءات المشبوهة لقياداتها – كما كشفت بالأمس كلمات أبو بكر البغدادي المثيرة – من شأنه تعميم الفوضى لا لجمها. ومعروف أن واشنطن كانت قد دفعت، قبل غيرها، ثمنًا باهظًا لتجاهل «الأسباب» والتركيز على «الأعراض» منذ تورّطها في أفغانستان. لكنها، مع الأسف، لا يبدو أنها تعلمت الدرس، بدليل اقتناعها بأنها تستطيع استئصال شأفة «التطرّف الإسلامي السنّي» – الذي أسهمت في دعمه أساسا – عن طريق التعاون مع تطرّف ديني وطائفي مضاد. ولسوء طالع الشرق الأوسط، تسير معها اليوم في الركاب نفسه روسيا التي نصّبت نفسها «رأس حربة» عالمية ضد «التطرّف الإسلامي السنّي» وحليفًا تكتيكيًا – على الأقل – لإيران مذهبية وتوسّعية وعدوانية تتباهى علنًا بالسيطرة على أربع عواصم عربية.. بينها بيروت.
في بيروت، عاصمة لبنان، من العبث اليوم التوهّم أن المصالحات الفوقية والهدنات المؤقتة بين المكوّنات المختلفة ستنهي معاناة البلاد، لكن ثمة من يقول إنه ليس خطأ أن يواصل اللبنانيون، عبر نخبهم السياسية العرجاء، التخفيف من آلام أزمات أكبر من وطنهم إن لم تكن أكبر من المنطقة. ولا ضير من الدواء المُسكّن ريثما يتوافر العلاج الحقيقي.
هذا العلاج، كما يقول المنطق، لن يأتي إلا بعد اتضاح الصورة في واشنطن في أعقاب الانتخابات الرئاسية التي يخوضها الكرملين، كما لو كانت معركته الخاصة، لمصلحة المرشح الجمهوري دونالد ترامب. وكان لافتًا خلال الأيام القليلة الماضية استضافة الإعلامي الأسترالي اليساري الراديكالي جون بيلجر عبر قناة «روسيا اليوم» جوليان أسانج مؤسس موقع «ويكيليكس» في لقاء هدفه تدمير ما تبقى من فرص للمرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون، ومواصلة صحيفة «الإندبندنت» اللندنية الروسية المالك، حملاتها ليس دعمًا لترامب فحسب، بل لإيران وبشار الأسد أيضًا.