شتيوي الغيثي

القضية ليست قضية بنيان معماري بقدر ما هي قضية بنيان إنساني وفكري وثقافي يمكن الاعتماد عليه في بناء دولة قوية تقوم على أرضية ثابتة ومتينة

تسير الأوضاع في السعودية في بعض جوانبها نحو الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهذا الوضع الاقتصادي كشف عن مشكلات أخرى من توقف كثير من المشاريع التنموية، وتوقف التنمية هو توقف لكل التطور الاجتماعي والثقافي والديني وربما السياسي كذلك، والعودة إلى سنوات الخمول التي كانت في التسعينات. 
لم نكن نتصور أن الأمور ستقود إلى ما قادت إليه الأوضاع حالياً رغم تحذيرات بعض الاقتصاديين السعوديين الذين لم يسمع لهم أحد من أصحاب القرار، حتى انكشف لنا أن القوة الاقتصادية التي كنا نعتمد عليها ونفاخر بها عالمياً لم تكن بتلك المتانة التي توقعناها. ما بُنِي خلال السنوات العشر الماضية أو أكثر بقليل من الناحية الاقتصادية والاجتماعية والدينية واتساع هامش الحرية التعبيرية والاتكاء على الحوارية الفكرية وانفتاح المجتمع على أطيافه المختلفة وتطور الحركة الثقافية _ انتهى معظمه في غضون سنة أو سنة ونصف السنة، فالتراجع الاقتصادي يستلزم تراجعا على مستوى التنمية، التراجع على مستوى التنمية يفترض تراجعا في التطور الاجتماعي، وهو ما سوف يؤثر على المستوى الثقافي كذلك، إذا اعتبرنا أن الاقتصاد هو المحرك للشعوب كما هي تحليلات بعض المثقفين الاشتراكيين الغربيين.
لم تكن الضخامة الاقتصادية ولا الثقافية والاجتماعية والدينية التي كان غالبية المجتمع يفاخر بها ويرفض نقد جوانبها المختلفة لم تكن تتكئ على متانة تمتد بها لسنوات طويلة لا يمكن زعزعتها بسهولة؛ بل انكشفت الأمور عن هشاشة تحت تلك الضخامة. كانت المبالغة في تضخيم الأمور سمة عامة حتى على مستوى الأغاني الوطنية مثلا، فضلا عن التضخيم الخطابي في المحافل والتضخيم الإعلامي والتضخيم في المشاريع التنموية وإظهارها بتلك الضخامة التي قد تكون مبهرة جدا، لكن تلك الضخامة كانت هشاشتها بوصفها لم تعتمد على رؤية معمقة تعتمد على دراسات بعيدة المدى، بل هي أقرب إلى مشاريع ارتجالية حتى على المستوى الثقافي، فغالب المؤتمرات تعتمد على تضخيم الحضور، فالأمسية الشعرية الناجحة مثلا هي تلك التي يحضرها جمهور ضخم، وإن كانت بسيطة المضامين، ولا تتكئ على شعرية حقيقية، هذا غير المحافل الرسمية التي يحضرها مسؤول من الصفوف العليا في الدولة، وغالب المؤتمرات الرسمية الضخمة تذهب أدراج الرياح لأن الفكرة هي فكرة التضخيم وليس فكرة الإصلاح الحقيقي التي تحاول أن تتكئ على متانة فكرية أو متانة اقتصادية أو متانة اجتماعية أو غيرها.
فكرة التضخيم هذه كانت محور كتاب نزيه الأيوبي: (تضخيم الدولة العربية) فهو يرى أن الدول العربية والخليجية بالتأكيد منها، مفرطة في نموها وجهازها الوظيفي أكبر مما ينبغي، ونموها لم يكن نموا طبيعيا، معتمدة على زخمها الثقافي، وهذا النمو الضخم يهدف إلى تجذر الدولة في كل تفاصيل الحياة بعملياتها البيروقراطية، وهي عملية في أساسها تهدف إلى السيطرة، مما يجعل الدول العربية، بلا استثناء، دولاً ضارية _ حسب تعبيره _ وليست دولا قوية، وهذا قريب مما كتبته أعلى من مسألة الضخامة والمتانة والهشاشة، لكن بلغة أخف، فضخامة الدول العربية قادتها إلى كثير من الأزمات، إذ يصعب مع التضخيم الذي لا يسير بوتيرة ثابتة أن يبقى كما هو، فغالب الأمور تسير بوتيرة سريعة وغير مدروسة تهدف إلى النمو السريع، وتكبير المشاريع هو في جانب من جوانبه محاولة لإظهار قوة الدولة في اقتصادها تنافس الدول الكبرى رغم عدم قدرة الدول العربية مجتمعة على منافسة بعض الدول الأوروبية الصغيرة، فما زالت الدول العربية رغم كل مشاريعها الضخمة في ذيل القائمة من ناحية التصنيف التنموي، فالقضية ليست قضية بنيان معماري بقدر ما هي قضية بنيان إنساني وفكري وثقافي يمكن الاعتماد عليه في بناء دولة قوية تقوم على أرضية ثابتة ومتينة، حتى لو تأخرت في نموها قليلا، فالتسارع في النمو قد يقود في النهاية إلى فجوة بين الواقع الثقافي والاجتماعي والواقع التنموي، بحيث يشكل صدمة حضارية كثير ما تحدث عنها المفكرون العرب، وهذه الفجوة قد حصلت بالفعل كون غالب المشاريع التنموية الضخمة في الخليج عامة كانت بيد العمالة الأجنبية وليست اليد الخليجية، وهذا ما يفسر إلى حد ما تلك الحالة المتناقضة ما بين سكن السعوديين في بيوت حديثة مع تصرفات وسلوكيات تنم عن عقلية تقليدية، فلا هو ذلك المجتمع المتحضر ولا هو ذلك المجتمع الذي بقي على تقليديته.