محمد آل الشيخ

 الأفكار الدنيوية لا الدينية ونقدها دونما قيود إلا قيود العقلانية والمنطق، هي الأساس الذي ترتكز عليه الحضارة المعاصرة. ولا يمكن اليوم لأي دولة أن تحقق ولو قدرًا قليلاً من التنمية والتقدم الحضاري ما لم ترتكز على هذه المعادلة. ومن يرصد طريقة وأسلوب البعض في التعامل مع الأفكار الفقهية الدنيوية التي هي نتاج اجتهادات ومقاربات بشرية يجد أن نقدها هو في معاييرنا رجس من عمل الشيطان، من اقترب منه، ترتفع الأعناق وتشمخر السيوف، معلنة الغضب الذي لا يبقي ولا يذر.

«داعش» و»القاعدة» التكفيريان - مثلاً - لم ينزلا علينا من المريخ، ولم يكونا نبتة غريبة نبتت في غفلة من الزمن في البيئة العربية الإسلامية، وإنما كانا نتاجًا طبيعيًا لعدم (نقد) وتمحيص تراثنا، ومقولات ومنتجات واجتهادات بعض فقهائنا التراثيين.

ولكيلا ندفن رؤوسنا في التراب، فإن كل اجتهادات الدواعش والقاعديين الحياتية لها أصول مدونة في مدونات تراثنا، ولأننا لم نعرضها للنقد، ولم نواجه مقتضيات تنفيذها على أرض الواقع، جاء الدواعش وقبلهم القاعديون، وأنزلوها من الكتب التراثية، وطبقوها على الأرض؛ أي أنهم لم يخترعوا فكرًا فقهيًا جديدًا ابتدعوه، ولكنهم - فقط - قاموا بتفعيل التراث الفقهي الموروث والمدون من قبل الفقهاء الأقدمين.

وأنا هنا لا أعني القضايا الدينية وإنما أعني القضايا الدنيوية، التي قال فيها الأقدمون حسب متطلبات عصرهم لا عصرنا مقولاتهم؛ وغني عن القول إن أوضاع الناس وأحوالهم متغيرة، لا تبقى على حال، بينما أن القضايا الدينية وبالذات التعبدية التي تختص بعلاقة الإنسان بربه جلّ وعلا ثابتة لا تتغير ولا تتبدل عبر الزمان والأمكنة؛ فالله جلّ شأنه يُعبد اليوم كما يعبد قبل ألف وأربعمائة سنة، كما يعبد في مكة المكرمة مثلما يُعبد في أي مكان آخر. غير أن الحياتيات تختلف وتتغير بتغير الزمان والمكان.

فقول الفقيه في شؤون الحياة ينطبق على زمنه ولا يمتد لأي زمن آخر إلا في شؤون العقيدة والعبادة، وبالذات زمننا، الذي يختلف اختلافًا جوهريًا عن زمن الأسلاف. تراث ابن تيمية الفقهي - مثلاً - يجب أن نعيد قراءته قراءة متفحصة نقدية، فما كان يخص الشؤون العقدية والعبادات المتعلقة بالأمور الدينية، وكذلك الماورائيات التي لا يمكن إدراكها بالعقل، ولا سبيل للوصول إليها إلا بالنقل، قبلناها، وأما شؤون الحياة ومصالح الناس فليس بالضرورة أن ما يحتوي تراثه من مقولات ومقاربات وفتاوى نكون ملزمين بها. وهذا المعيار لا يقتصر على ابن تيمية أو على تلميذه ابن القيم، وإنما ينطبق على كل فقهاء الماضي القريب والبعيد. الأصل أن الحكم على الأمور جزء من تصورها كما يقول فقهاء أصول الفقه في معاييرهم، فكيف يمكن عقلاً أن نستقي رأيًا فقهيًا من فقيه لم يعاصر زمننا ولم يتعامل مع متغيراته؟

وفي تقديري أننا متى ما فرقنا بين ما هو ثابت لا يتغير وبينما هو متغير بالضرورة، بل يجب أن يتغير، ويواكب الأزمنة والأمكنة ويدور معها ويتماهى مع متطلباتها، نكون قد وضعنا أقدامنا على أول طريق التصحيح والتجديد، وإلا فإن الأسباب الموضوعية التي أنتجت (داعش) ستنتج غيرها مرات ومرات.

إلى اللقاء