إميل أمين

منذ وقت بعيد، جرى العرف أن يميل التيار الأصولي المسيحي في الولايات المتحدة لتأييد الحزب الجمهوري بنوع خاص، في حين أن الديمقراطيين وأنصارهم عادة ما يكونون أقرب إلى اليسار، ولا تشغلهم كثيرًا مسألة الهوية الدينية للمرشح للرئاسة، بقدر انشغالهم برؤاه السياسية، وطروحاته الاقتصادية للبلاد. وثمة من يقول إن التيارات الإنجيلية هذه المرة لا تميل لدعم المرشح الجمهوري دونالد ترامب، لا سيما أن الرجل «مجرد من الأخلاقيات التي تسبق الإيمانيات أو العقائد»، وحتى إن وجدت نسبة منهم تدعمه، فإن مرد ذلك، كما يقول غريغ سميث، مساعد مدير معهد بيو للأبحاث في واشنطن، إلى «رفض التصويت لمنافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون». ولعل بحث الأسباب الكثيرة لهذا الموقف الإنجيلي من كلينتون يحتاج إلى حفر عميق في الجذور اللاهوتية للولايات المتحدة التي تشهد هذه الأيام ثورة من القيم الكاثوليكية والأرثوذكسية ضد القيم البروتستانتية الكالفينية - نسبة إلى جون كالفين، أو جان كالفان، (1509 - 1564) المصلح اللاهوتي السويسري - المتجسدة في عموم مذاهب البروتستانت، وخصوصًا لدى طائفة المعمدانيين (Baptists)، ناهيك بتجليها في جماعة النظاميين (Methodists) الذين تنتمي إليهم هيلاري كلينتون.
العداء الأصولي الديني للكاثوليك والأرثوذكس في الولايات للتيارات البروتستانتية يرجع إلى النظام الطائفي الذي نشأ من وحي أفكار كالفان في الماضي، الذي ارتكب مجازر جماعية بحق الآيرلنديين الكاثوليك في أوروبا. والشاهد أن الحضور الكاثوليكي في الولايات المتحدة الأميركية اليوم، الذي يقارب 25 في المائة من سكان البلاد - أي ما يزيد على 75 مليون نسمة - يبدو حائرًا إزاء من سيصوت هذه المرة، وخصوصًا بعد حالة الاضطراب والعداء الديني الذي بات يقسم الولايات المتحدة في الأعوام الأخيرة. ولقد جاءت الضربة القاسية والموجعة للتيارات المسيحية الأصولية - بالمعنى الإيجابي وليس السلبي، أي الكنائس ذات الأصول والمرجعيات التي تعود إلى زمن الحواريين، مثل الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة الأرثوذكسية - عبر وثائق «ويكيليكس» التي تحدثت عن «مخططات» لجماعة هيلاري تحمل عداوة واضحة للمؤسسة الكاثوليكية. والرسالة الخطيرة التي نشرها موقع «ويكيليكس» في هذا الصدد كانت عبارة عن طرح فكري من ساندي نيومان، مؤسس ما يعرف بـ«صوت التقدم» على جون بوديستا، رئيس الحملة الانتخابية لهيلاري كلينتون، يقول فيها «إن الجدل الذي يطرحه الأساقفة الكاثوليك حول وسائل منع الحمل، جعلني أفكر أن هناك حاجة ملحة لـ(ربيع كاثوليكي) يطالب من خلاله الكاثوليك بوضع حد، بل إنهاء ديكتاتورية العصور الوسطى وبداية عصر يحفظ بعض الديمقراطية والمساواة بين الجنسين في الكنيسة الكاثوليكية».
ولاحقًا احتدمت المعركة بين جبهات أصولية مسيحية في الداخل الأميركي. فعلى سبيل المثال سخر جون هالبين، العضو في «مركز التقدم الأميركي» من الذهنية المحافظة في الكنيسة الكاثوليكية، وذلك عن طريق رسالة إلكترونية. وذهب هالبين إلى حد القول إنه «لا بد أن هؤلاء ينجذبون إلى الفكر الممنهج والرجعي فيما يخصّ العلاقات ما بين الجنسين، لا بد أنهم غائبون تمامًا عن الديمقراطية المسيحية».. وفي هذه إشارة لا تخطئها العين للسياسات المحافظة للأصوليين الكاثوليك، ورفض الليبراليين الأميركيين الذين يدعمون الحزب الديمقراطي ومرشحته التوافق معها والقبول بها.
ولكن، هل جاءت وثيقة «ويكيليكس» المشار إليها لتغير من اتجاهات الرياح ما بين المرشحين؟ سلفًا أشرنا إلى أن ترامب - غير الكاثوليكي بالمرة - لا يحوز ثقة شريحة كبيرة من المسيحيين الراديكاليين، وفي مقدمتهم نحو 30 مليون كاثوليكي يخضعون روحيًا لرؤية البابا الكاثوليكي فرانسيس الأول، في الفاتيكان، الذي كان قد شكك في هوية ترامب المسيحية من الأصل، بسبب رغبته في إقامة جسر عازل مع المكسيك. وقال البابا إبان زيارته الأخيرة للولايات المتحدة إن «من يريد تدمير الجسور وإقامة الجدران بين الناس ليس مسيحيًا».
* مشكلة كلينتون والكاثوليك
وحتى ظهور وثيقة «ويكيليكس»، كانت نتائج استطلاع الرأي الذي أجراه مركز بيو الموثوق في واشنطن أواخر أغسطس (آب) الماضي تشير إلى أن 52 في المائة من كاثوليك أميركا سيصوّتون لصالح هيلاري كلينتون، غير أن المشهد وقبل ساعات يبدو أنه يتغير، وأن لم يعنِ بالضرورة أن التحولات والتبديلات ستصب في صالح ترامب.
مع هذا، أشعلت وثيقة «ويكيليكس» نار الأصولية الطائفية ضد المرشحة الديمقراطية، إذ استنكر بول رايان، رئيس مجلس النواب الأميركي، والكاثوليكي المتدين، ما اعتبره «تشويهًا لسمعه الكنيسة الكاثوليكية»، ورأى أن نظرة فريق حملة كلينتون إلى ثلاثين مليون كاثوليكي أميركي على أنهم رجعيون إهانة تكشف مقدار الموقف العدائي لليبراليين الديمقراطيين «تجاه الشعب الأميركي والمؤمنين بشكل خاص»! ولم يتوقف رايان عند حد الإدانة أو الشجب، إذ أضاف في كلمات ما يتصل اتصالاً مباشرًا بعملية الاقتراع... «يجب على المؤمنين الأميركيين أخذ هذا الموضوع بعين الاعتبار وبشكل جدي، والاختيار ما إذا كانت هذه هي القيم التي يريدونها في رئيسنا المقبل أم لا».
المثير جدًا أن رايان لم يكن من قبل يدعم ترامب، رغم أنه من الجمهوريين، بل قياداتهم المتقدمة وهو رئيس مجلس النواب، كما أن البعض طرح اسمه مرشحًا بديلاً في حال انسحب ترامب أو أجبرته كوادر الحزب على الانسحاب، وهذا لم يحدث بالطبع.
ما نراه، إذن، يعني أن المسألة الأصولية الدينية صارت فاعلاً في الانتخابات. وإن لم تكن بالضرورة تدعم أيًا من المرشحين، وقد تنتظر الجواد الأخلاقي لقيادة أميركا في انتخابات 2020 أو 2024، لا سيما أن لدى الجمهوريين ما يراهم اليمين المحافظ جوادين رابحين، بهما من الشباب والحيوية، ويتوافران على المعايير التي يضعها للأخلاقية والمصداقية، هما السيناتوران اليمينيان تيد كروز (من ولاية تكساس) ومارك روبيو (من ولاية فلوريدا)، اللذان جربا حظيهما في الانتخابات الترشيحية للحزب الجمهوري قبل أن يخسرا أمام ترامب..
والحقيقة، أن الأيام الأخيرة من سباق الانتخابات الرئاسة الأميركية لم تخلُ من إعادة إحياء لقصص مغرقة في الأصولية المسيحية، حاول من خلالها الديمقراطيون «مغازلة» التيارات المسيحية البروتستانتية التي تشكل النسبة الغالبة من البيض الأنغلو ساكسون.
من هذه مواجهة هرمجدون (أرماجدون).. أو الصراع الحربي العالمي من منطلق ديني، ويمثل آخر المواجهات بين أمم العالم من جهة، واليهود في إسرائيل من جهة ثانية. هذه المعركة آمن بها رؤساء أميركا الأصوليون وأصحاب الفكر اليميني المسيحي المتشدد، بل والمتطرف في واقع الأمر، لا سيما رونالد ريغان، وجورج بوش الابن. وهما على رغم مسيحيتهما الظاهرة، أوليا الكتابات اليهودية أهمية أكبر من الإنجيل وروح التسامح والمحبة الموجودة فيه، وتمسّكوا بحرفية الناموس الموسوي إلى درجة تقديس ألواح موسى.
أنصار هذه المعركة يرون أنه يومًا ما سيأتي ملايين من دول الشمال «أقوام يأجوج ومأجوج» لمحاصرة المدينة المقدسة أورشليم (القدس) في وادي هرمجدون - التي هي سهل مجدّو في فلسطين - غير أن النار والبرد سينزلان من السماء ليتكفلا بالقضاء على تلك الملايين.
هذا المفهوم المحرف والمجتزأ لفهم التوراة قد أصبح قناعة مطلقة عند ساكن البيت الأبيض وأصحاب المجمع الصناعي العسكري الأميركي، الأمر الذي دفع الكاتبة الأميركية غرايس هالسل لأن تصف في أحد كتبها النبوءة المسيسة هذه بأنها تجلٍ لتغلغل روح الصهيونية في البيت الأبيض، مما يدفع الأصوليين المسيحيين الأميركيين لأن يكونوا على أتم الاستعداد، بل يكونون راغبين بكل قواهم في إشعال نيران حرب نووية.
وقبل عشرة أيام تحديدًا من يوم الاقتراع الرئاسي، امتلأت وسائل الإعلام الأميركية بآراء أحد أولئك الأصوليين، هو القس كارل جالوبس، الذي زعم أن التحالف الروسي - الصيني - التركي، والدور الذي يقوم به هذا المثلث القوي في الشرق الأوسط، هو تحقيق للتنبؤات التي تتحدث عن معركة هرمجدون، لا سيما أن المعركة مشروطة بوجود مائتي مليون جندي يحيطون بأورشليم، وأنه ما من جيش حول العالم لديه إمكانية حشد هائلة لذلك العدد إلا الصين. هذه التصريحات وجدت لها آذانًا صاغية عند الناخبين الديمقراطيين ومرشحتهم التي لها موقف سلبي معروف من فلاديمير بوتين وروسيا، وترفض ما تراه «ديكتاتورية روسية». ثم، لعل من يتابع تحركات الأسطول الروسي خلال الأيام الأخيرة لجهة البحر المتوسط يدرك أن موسكو لم يعد يوقفها شيء للتدخل وبقوة في المنطقة، حتى أن البعض يتحدث عن سيناريو عسكري ساحق ماحق يتصل بمعركة حلب في سوريا.
غير أن هذا ليس بيت القصيد، فيما التنسيق المثير يأتي من الأصوات الأصولية اليهودية داخل إسرائيل التي باتت تعتبر «روسيا عدوة»، لا سيما أن إسرائيل لم تعد قادرة على السيطرة على منطقة الشرق الأوسط، بسبب وجود أنظمة صواريخ ووسائل مراقبة روسية في المنطقة، والأصوات داخل إسرائيل تتحدث عن زيادة احتمالات وقوع الصدام بين القوات الروسية والإسرائيلية في السماء أو في البحر..
ختامًا، ربما لا تلعب الأصوليات الدينية في انتخابات الرئاسة الأميركية 2016 دورًا مثيرًا وحاسمًا، مثل تلك التي رأيناها من قبل أوائل هذا القرن، إلا أنها ستبقى فاعلة في كل الأحوال. ذلك أن الحراك الديني الأميركي ينطلق مثل البركان من تفاعلات داخلية من جهة، ويجد اليوم محفزات «هرمجدونية» وروسية خارجية من جهة ثانية. وهذا مشهد حكمًا لن يتوقف عند هذه الانتخابات، بل هو كذلك مرشح لمزيد من التصاعد في الآتي من الأيام.