محمد كركوتي 

لم تتردد مجلة “فورين أفيرز” الأمريكية الرصينة في القول “إن بريطانيا في طريقها لتصبح أشبه بالأسواق الناشئة في العالم”. لماذا؟ لأن هناك مخاطر سياسية، وتختبر قيمة عملتها، ويعاني اقتصادها حالة عدم الاستقرار وعدم وضوح المستقبل”. لم يكن الأمر بهذه الصورة القاتمة في أعقاب الاستفتاء على انسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي. كان الجميع في حزيران (يونيو) الماضي مصدوما، والجميع هنا يعني المعسكرين، معسكر البقاء ومعسكر الانفصال. تطلب الأمر وقتا لاستيعاب الصدمة في كلا الاتجاهين، لكن مع الوقت ظهرت الحقائق المروعة، وبات الأمر لا ينحصر في تكاليف عضوية بريطانيا في الاتحاد، بل في الخسائر الفادحة التي ستتكبدها الآن وعلى مر السنوات المقبلة. ناهيك طبعا، عن السمعة الاقتصادية للبلاد، التي بلغت حد أن طلبت الحكومة اليابانية من رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي، أن تطلعها على طبيعة مفاوضات الخروج، لأن الأمر يتعلق بمستقبل الاستثمارات اليابانية في بريطانيا. بل إن شركات ومصارف كبرى تقدمت بطلبات مشابهة. وباستثناء البلدان التي وقعت تحت وصاية ما، لم يحدث أن طلبت دولة من حكومة بلد مستقل ذات سيادة مثل هذا الطلب. الأمر الذي لا بد أن يدفع تيريزا ماي إلى مراجعة مواقفها حيال عملية الانفصال. نحن نعرف أنها ماضية في هذه العملية، وإن أخرتها لأسباب تتعلق بمصلحة بريطانيا وليس الاتحاد الأوروبي. لكن مع كل حقيقة مروعة تظهر على الساحة، تجد نشاطا متصاعدا لمواجهة عملية الانفصال هذه، حتى من المسؤولين الموالين جدا لرئيسة الوزراء. وهؤلاء رغم إيمانهم العميق بقيمة رأي غالبية الشعب، إلا أنهم يعتقدون أن توضيحات جديدة للخسائر، قد تغير من الحراك على الساحة المحلية البريطانية. ولا سيما بعد أن قضت المحكمة البريطانية العليا، بضرورة تصويت مجلس العموم على قرار بدء إجراءات الانسحاب من الاتحاد.

رئيسة الوزراء أسرعت للإعلان أنها ستسعى لتجاوز دور القضاء في هذه المسألة، إلا أن زملاء لها أسرعوا أيضا للتمسك بهذا الحكم البعيد عن المعايير السياسية. وهناك حجة منطقية لأولئك الذين يأملون إعادة طرح الموضوع مجددا للاستفتاء، تستند إلى أنه إذا كان من حق مؤيدي الانفصال احترام نتيجة التصويت، فمن حق مؤيدي البقاء أن يطرحوا الأمر لتصويت جديد، وفق نتيجة المفاوضات التي ستعقدها بريطانيا مع الاتحاد الأوروبي بعد تفعيل المادة 50 من معاهدة لشبونة. وهي المادة التي تنظم عملية خروج عضو من هذا الكيان الأوروبي الكبير، وتحدد الأطر المستقبلية للعلاقة بينه وبين الاتحاد. وهذه النقطة بالتحديد ترهب الساحة البريطانية ومعها البلدان التي لها مصالح في المملكة المتحدة، وهي مصالح اقتصادية واستثمارية هائلة.

أما لماذا هذه الرهبة؟ فلأن المفوضية الأوروبية أعلنت مرارا، وكذلك فعل عدد من قادة الاتحاد الأوروبي، أن بريطانيا لن تحظى بمعاملة خاصة إذا ما خرجت، وأن الشيء الوحيد الذي يجب أن تقبل به هو الموافقة على حرية التحرك منها وإليها. وأقل من ذلك لن تكون العلاقة أفضل من العلاقة القائمة حاليا بين الاتحاد وأي دولة خارجه. بتنا نعلم الأضرار التي ستضرب بريطانيا، وشاهدنا الأضرار التي ضربتها بالفعل من تدهور قيمة الجنيه الاسترليني، إلى تراجع الثقة بالاقتصاد البريطاني. وكان طبيعيا أن تتقدم وكالات التصنيف العالمية لتعلن من جانبها، أنها ستعيد النظر في التصنيف الائتماني للمملكة المتحدة وفق طبيعة الاتفاق الذي ستتوصل إليه مع الاتحاد. ليس مهما هنا نتيجة الاستفتاء، المهم وضعية بريطانيا الاقتصادية وحتى السياسية.

باختصار، لا يبدو أي أمل لبريطانيا في أن تكون في قلب المشروع الأوروبي، وبالطبع لن يسمح لها بذلك مهما كانت المبررات. لتحترم تيريزا ماي نتيجة الاستفتاء هذا حقها وحق المشاركين فيه الذين وقفوا مع الانسحاب، لكن لا يعني للأوروبيين هذا الأمر شيئا. اللافت في تداعي أحداث انسحاب بريطانيا، ليس فقط حكم المحكمة العليا، بل أيضا ما أعلنه الدبلوماسي البريطاني السابق جون كير. وأهمية ما قاله تنبع من أنه هو شخصيا من أعد المادة 50 في تعديل معاهدة لشبونة. ماذا قال؟ “بإمكان بريطانيا التراجع عن قرارها بالخروج من التكتل بعد بدء محادثاتهما الرسمية بهذا الشأن”. وهو يؤكد أنه “بإمكانك تغيير رأيك أثناء المفاوضات”. لكن هذا الكلام (على أهميته) لا قيمة له أمام تمسك ماي حتى الآن ببدء المفاوضات في آذار (مارس) المقبل.

ستكون هناك “معارك” محتدمة كلما اقترب هذا الموعد. فأصحاب البقاء لديهم بالفعل نقطة لمصلحتهم ترتبط مباشرة بعرض نتائج المفاوضات على استفتاء جديد، كما أن القانون يحتم على مجلس العموم نفسه التصويت على مسألة خطيرة كهذه. والجميع يعلم أن نواب الشعب البريطاني (بأغلبيتهم) يقفون مع بقاء بلادهم ضمن الاتحاد الأوروبي.