سمير عطا الله 

 سافرت في ديار الله مذ كنت في العشرين من العمر. أخذني الترحال إلى أوروبا، وأوروبا الشرقية، وأميركا، والخليج، وأفريقيا، والهند، وإندونيسيا، وسنغافورة، وروسيا، وما لم أعد أذكر، على قول ابن الرومي. استطعت أن أكون في كل هذه البلدان صحافيًا، ينتقل قلمي معي دون سؤال منه أو عتبٍ مني. فالإنسان هو مهنته، التي هي أيضا هويته. من بين جميع تلك الدول، شاءت الأقدار أن أكون مواطنًا بريطانيًا، إلى جانب الوطن الأم.
إذن، صحافي في كل مكان ومواطن من الدرجة الثانية في بريطانيا، ومواطن أزلي في لبنان. وعندما أكتب في الشؤون اللبنانية، فقط يتقدم شعور المواطن على مهنة الصحافي. لا أستطيع أن أقاوم فرحي أو مخاوفي، أو قلقي، أو أحزاني، أو الآمال التي تجمعني بأصدقائي ورفاقي وأهلي وأبنائي. لست محايدا في الشأن اللبناني، كما أنا في الشأن البريطاني. فلبنان ليس مجرّد عمّال ومحافظين، بل هو صيغة العودة الدائمة مهما تنوّع الترحل. عندما كنت آتي إلى باريس في الستينات والسبعينات، كان أول ما أفعله في اليوم التالي للوصول، الذهاب إلى كشك الصحف العربية لشراء نسخة من «النهار» التي لم يمضِ على تركي لها 24 ساعة. وفي 1972، التقيت في لندن الزميل بسام فريحة، فلاحظ أنني متحيّر، فسألني عمّا أبحث. قلت عن مطعم لبناني. وهتف صارخًا هل قطعت كل هذه المسافة من بيروت لتبحث عن مطعم لبناني في مدينة المطاعم العالمية؟ أذكر دومًا جملة وجمالية الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، الذي قال: «أينما نمت، أحلم أنني في بوينس آيرس».
أتحاشى، ربما كما هو ملحوظ لديكم، الكتابة الكثيرة عن لبنان في صحيفة هي لكل العرب في كل مكان. ولا أعود إلى الشأن اللبناني إلا عندما يشكّل في حد ذاته حدثًا عربيًا شاملاً. وفي هذه المرحلة الجديدة من حياة لبنان، أكتب كمواطن، وبمشاعر بسيطة لا علاقة لها بالتحليلات والتوقعات، وإنما بآمال صغيرة وطيبة، في أن يعود لبنان بلد الوئام والمصالحة والنافذة العربية الكبرى، وحديقة الآداب والفنون، وملجأ المظلومين والمضطهدين.
كتبت دائمًا أن لبنان صيغة، لا وطن. صيغة تتسع لجميع الناس ومحاسن الأفكار ولزوميات المصالحة البشرية. ومع مجيء الرئيس ميشال عون، أتمنى أن يعود لبنان إلى نفسه، وإلى حلمه بالدولة التي تكسّرت منذ اشتعال الحرب. يتدافع اللبنانيون اليوم ليطرح كل منهم أمنيته حول البلد المأمول، وأما أنا، فمجرد أمنية بسيطة، بلبنان معافى وهانئ ومُنصف ومرتاح الضمير.