راغدة درغام

سينفّذ الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترامب، وعود التغيير التي حشدت له العزم على دعمه بقفز على كل الشوائب والفضائح والعيوب التي ارتبطت بشخصه أثناء الحملة الانتخابية، إنما هذا لا يعني أنه بالضرورة سينفذ كامل وعوده الانتخابية، المحلية والدولية، لأن الفارق كبير بين دونالد ترامب المرشح وبين الرئيس المنتخب دونالد ترامب. رجل الأعمال الذي لصق اسمه بالذهب على الأبنية والمشاريع التجارية والترفيهية استمتع بلقب «ذا دونالد» قبل أن يعيد اختراع نفسه بخوض الانتخابات الرئاسية، فتحوّل إلى مستر دونالد ترامب تهيئة للقب الأكبر. دونالد ترامب لقّن الدروس الصعبة للنخبة التي هزأت به كرجل أعمال وكمرشح للرئاسة وأتقن فن الانتقام بتأبطه الشعوبية سلاحاً ضد النخبوية. أعطى التمرد والاحتجاج وجهاً جديداً وتجرّأ على تحدّي المؤسسة التقليدية Establishment بكل ما فيها من رجال حكم ورجال مال ورجال أعمال. أطاح بالأسرتين اللتين أرادتا أن تصبحا شبه أسرة حاكمة في المشهد السياسي الأميركي - آل بوش وآل كلينتون. فرض على الحزبين الجمهوري والديموقراطي، الكف عن افتراض أحقية كل منهما بالهيمنة على العملية السياسية الأميركية وفرض عليهما مراجعة النفس جدياً. فضح وسائل الاستطلاعات ووسائل الإعلام التي انحازت بمعظمها ضده تلقائياً خجلاً من فكرة وصول رجل مثله إلى منصب الرئاسة الأميركية. تصرّف باعتباطية وبهلوانية وبتهريج واستخدم الصدمة ليدهش الذين دعموه وأولئك الذين كرهوه. إنما في نهاية المطاف، ما فاز دونالد ترامب به ليس فقط الأصوات الانتخابية بأكثرية واضحة، بل إن فوزه الأكبر هو في ذكاء وحذاقة فهمه لحاجة الشعب الأميركي للتغيير. فأي تغيير سيأتي به الرئيس المنتخب إلى الساحة الأميركية والساحة الدولية؟ هل سيكون أداء دونالد ترامب الرئيس انفرادي النزعة كما كانت مسيرته إلى البيت الأبيض رغم أنف مستشاريه، أم أن شخص الرئيس سينقلب على شخص المرشح ورجل الأعمال بعدما يستمع إلى الإحاطات السرية المتعلقة بالأمن القومي الأميركي وبخفايا سيرة المؤسسة التقليدية وعلاقتها العضوية بالحكم في الولايات المتحدة؟

فوز دونالد ترامب بالرئاسة أتى بمثابة استفتاء على أداء الرئيس الحالي باراك أوباما ورفض ولاية ثالثة له عبر مرشحة الحزب الجمهوري، وزيرة خارجيته السابقة، هيلاري كلينتون. ربما أن إفراط باراك وميشال أوباما في دخول الحلبة الانتخابية دعماً لهيلاري كلينتون أساء إليها، في نهاية المطاف، أكثر مما حشد لها الدعم، لأن جزءاً من الناخبين المترددين رأى ذلك على أنه ولاية ثالثة، فانتفض.

لكن مدى عدم الثقة بهيلاري كلينتون نتيجة التحقيق الفيديرالي باستخدامها الرسائل الإلكترونية خارج الطرق الديبلوماسية المعهودة كان ناخباً مهماً في المعركة الرئاسية. كذلك تاريخ الفضائح الذي ارتبط أيضاً بآل كلينتون والتهم ضد الرئيس السابق بيل وهيلاري كلينتون بالفساد.

يقول البعض إن الأميركي الأبيض قرر الانتقام من وصول باراك حسين أوباما ذي البشرة السوداء إلى البيت الأبيض، على رغم جذوره الأفريقية والإسلامية، ولذلك التفّ الأميركي الأبيض حول دونالد ترامب الذي تحدث بلغة عنصرية وإقصائية للمسلمين واللاتينيين على السواء. إذا ثابر الرئيس المنتخب على حياكة الخطاب الاجتماعي والخطاب السياسي الإقصائي، ستزداد البيئة الأميركية انقساماً وستسير في طريق انحلال العقد الاجتماعي المبني على التعايش والحقوق المتساوية. عندئذ ستلتصق بدونالد ترامب سمعة تفكيك أميركا وعقيدتها بما يخدم أعداء هذه الديموقراطية العريقة. عندئذ يبدأ عهد الانحلال في التاريخ الأميركي وصولاً إلى الانحطاط. خطاب الرئيس المنتخب دونالد ترامب الأول كان مطمئناً، إنما العبرة في الأفعال.

واقعياً، سيكون صعباً على الرئيس المنتخب تنفيذ كامل وعود المرشح للرئاسة لأسباب براغماتية وواقعية. فمشروع ترحيل 10 ملايين مهاجر غير شرعي ليس نزهة، وبناء جدار فاصل مع المكسيك تدفع كلفته الحكومة المكسيكية ليس شخطة قلم. تفكيك برنامج التأمين الصحي المعروف باسم «أوباما كاير» قد يتصدّر أولويات التغيير الموعود وربما أيضاً نسبة الفائدة وإعادة النظر في جداول الضرائب الأميركية. لكن إلغاء الاتفاقيات الدولية على نسق «النافتا» أو أسس التعاقد مع حلف شمال الأطلسي (ناتو) أمر تترتب عليه تداعيات اقتصادية وسياسية، أميركية ودولية، قد لا يكون ترامب جاهزاً لأخذه على عاتقه في مطلع ولايته لأربع سنوات.

الرئيس المنتخب دونالد ترامب لن ينفذ، على الأرجح، تلميحاته بإبطال الاتفاق النووي مع إيران لكنه لن يضع نفسه ومبادئه وسياساته رهن ذلك الاتفاق كما فعل باراك أوباما. سيضع طهران في موضع المراقبة والاستحقاق ولن يتراجع أمام تهديداتها المبطنة بإيقاف مفعول الاتفاق النووي لأنه، أساساً، يعتبره ناقصاً وضعيفاً في خدمة المصالح الأميركية كما في إيقاف طموحات ومشاريع إيران النووية لمجرد عشر سنوات.

هذا التغيير المنتظر في العلاقة الأميركية - الإيرانية في عهد ترامب لن يكون إطاحة بالنقلة النوعية في العلاقات الأميركية - الإيرانية كما صاغها أوباما، لكنه ليس تطوراً عابراً. لعل الفارق بين سياسة أوباما التي تصادمت مع الدول الخليجية وبالذات السعودية، مرجحة الأولوية الإيرانية في الاعتبارات الأميركية، وبين سياسة ترامب التي تضع إيران والدول الخليجية على مسافة واحدة من الأولويات الأميركية هو الذي سيميّز ولاية ترامب في علاقاته مع إيران والدول الخليجية العربية. فإذا حدث ذلك، سيكون تطوّراً جذرياً.

هذا لا يعني أبداً أن دونالد ترامب سيسرع إلى احتضان المواقف الخليجية ويتعادى مع إيران. فإذا ظن الخليجيون أن هذه فرصتهم، الأفضل إعادة النظر. ما يعنيه هو أن اللامحبة واللاإعجاب واللاإعتبار واللاإهتمام واللاأولوية ستكون بالمساواة بين الاثنين وهذا تطوّر.

أقصى الأمنيات هو أن تتخذ سياسة الابتعاد المتساوية عن إيران ودول الخليج بعداً تاريخياً يتمثل في رفض الرئيس ترامب المشاركة في إذكاء الحروب المذهبية بين السنّة والشيعة. فهو لا يبالي بالمسلمين عامة وقد يقرر أن أنماط الإدارات الأميركية السابقة القائمة على الاستفادة من سكب النار على الحروب المذهبية الإسلامية لا حاجة لها بعد الآن. هذا إذا أقرّ حقاً التغيير الجذري، وإذا سمحت له المؤسسة التقليدية بذلك.

إيران ستكون متواجدة في سياسات ترامب من البوابة الروسية والبوابة السورية ومن فسحة إقناعه على يد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن إيران تخوض حرباً بالنيابة لضرب «داعش» والإرهاب. عندئذ، إذا غابت الدول الخليجية من إثبات شراكتها الفعلية في الحرب على «داعش» والإرهاب، ستربح طهران معركة أساسية في كسب موقع مميّز لها مع دونالد ترامب وإدارته، وستندم الدول الخليجية كثيراً ما لم تستبق الأمور وتثبت موقعها في أولويات الرئيس المنتخب. لقد حان الوقت للخروج من خانة الكراهية للإسلام التي زجت الدول الخليجية نفسها فيها لدى صياغة مواقفها من دونالد ترامب. طهران لم تفعل ذلك.

دونالد ترامب أوضح أولوياته ذات العلاقة بالسياسة الخارجية بما فيها تلك الخارقة للمبادئ المفترضة. بغض النظر إن كان سيحمل تلك الوعود إلى البيت الأبيض أم لا، من الضرورة التدقيق في أسوأ السيناريوات لوضع أفضل السياسات. وسورية مثال، وليس العراق، مثلاً.

العراق سيبقى محصوراً في معركة الموصل أثناء إدارة ترامب، إن لم تنته هذه المعركة قبل تسلمه السلطة برفض مشاركة «داعش» بأي طريقة كانت. فترة الوقت الضائع بين اليوم ومنتصف شهر كانون الثاني (يناير) قد تسجّل تطوّرات جذرية ميدانية في معركة حلب ليس واضحاً ماذا ستكون نتائجها. روسيا فائقة الأهمية في تلك المعركة. كذلك إيران. كذلك تركيا. الخاسر المباشر من فوز دونالد ترامب بالرئاسة الأميركية يبدو المعارضة السورية المسلحة المعتدلة ومن يدعمها من الدول الخليجية وتركيا. لكن لتركيا موقعاً مميزاً في المعادلة لأنها داخل ساحة الحرب السورية ولأنها عضو في حلف شمال الأطلسي - ودونالد ترامب سيكون في صدد صياغة مواقفه نحو الاثنين.

أكثر ما يشغل البال هو تلك العلاقة الرئيسية والأساسية بين الرئيس المنتخب دونالد ترامب والرئيس الداعم فلاديمير بوتين. بوتين استفاد كثيراً من انعزالية باراك أوباما وتصرف بغرور وهو يعامل الولايات المتحدة وكأنها العجوز التي فاتها الزمن. دونالد ترامب لن يقبل بمثل تلك المعاملة. إنه فخور بأميركا التي سيبنيها حتى إن لم يكن فخوراً بأميركا التي ورثها من أوباما.

فما يرثه دونالد ترامب هو أميركا الضعيفة والمستضعفة التي خسرت قوة أخلاقية ميّزتها وجعلتها قائدة عالمياً.

ما يرثه من حروب الآخرين لا يهم دونالد ترامب وهو لا يكترث إن سقطت سورية في يد هذا الطرف أو ذلك، وإن مضى اليمن إلى حرب أهلية، وإن وقعت إيران في مستنقع ما أو نفذت هيمنتها الإقليمية. فهو لن يحارب حروب الآخرين، وبهذا يتفق مع أوباما. وربما هو ذا القاسم المشترك الوحيد بين الرئيسين. وإلى حين صياغة ترامب سياساته وتشكيل حكومته، سيبقى العالم متأهباً للمفاجآت من رجل المفاجأة. اللاإستقرار رافق العملية الانتخابية في أسواق المال. المخاوف من الاعتباطية والانعزالية في ولاية ترامب كانت واضحة في ردود الفعل العالمية.

السؤال الذي لا يتمكن أحد بعد من الإجابة عليه هو: أي تغيير يأتي به دونالد ترامب إلى الساحة الأميركية الداخلية وإلى العلاقات الخارجية للولايات المتحدة؟ التغيير آتٍ، إنما بأية درجة وبأي شكل وإلى أين؟

مثير ما يحدث للرجال عندما يتولون زمام السلطة. كثر منهم يتعالى ويشغل المنصب بطلاق مع التواضع الذي لازمه أثناء الحملة الانتخابية. لكن دونالد ترامب لم يتظاهر بالتواضع بل تعاطى مع معارضيه بفوقية وعنجهية وثابر في الثقة المطلقة بوصوله إلى البيت الأبيض. الأمل أن يكون جاهزاً الآن لمهمة قيادة أميركا العظمى بوعي وتواضع وبجدية.