مطلوب حكومة جامعة لمبادئ وطنية لا حكومة جامعة لمصالح مشتركة...

اميل خوري

كم الفارق كبير بين أهل السياسة في الماضي وأهلها اليوم. في الماضي كانوا يحترمون الدستور ويطبّقون النظام الديموقراطي ويحرصون على المال العام. وكانت الأكثرية التي تفوز في الانتخابات النيابية هي التي تنتخب رئيس الجمهورية ورئيس المجلس وتسمي رئيس الحكومة المكلف والوزراء فتكون حكومة انسجام وتجانس وسياستها واحدة، تدافع عنها أمام المجلس النيابي وفي المحافل العربية والدولية.

في الماضي كانت البلاد محكومة من أكثرية موالية وأقلية تعارض وتحاسب الى أن تصبح الأكثرية أقلية فتعارض والأقلية أكثرية فتحكم. وكانت المعارضة تحاول اجتذاب موالين اليها لتعزيز دورها، والموالاة تحاول اجتذاب معارضين اليها لإضعاف دورهم. ولم يكن الدخول الى الحكومة كما هو اليوم بدون قيد ولا شرط، بل كان كل وزير لديه مشروع يشترط القبول به ليقبل المشاركة في الوزارة حتى إذا لم يمر هذا المشروع في مجلس الوزراء يستقيل ولا يبقى في الحكومة كما هي الحال اليوم ليعارض من داخلها... ولم يكن من الصعب تحديد عدد المعارضين وعدد الموالين عند طرح الثقة بالحكومة لأن الانقسام بينهما كان واضحاً، فلا معارض ينتقل فجأة الى صفوف الموالاة، ولا موالٍ ينتقل الى صفوف المعارضة لمكسب أو منفعة، وكان من يتهم أي شخص مسؤول أو غير مسؤول بالفساد وباختلاس المال العام، لا يكتفي بتوجيه الاتهام بل كان يذهب الى القضاء أو يوجه سؤالاً أو استجواباً للحكومة، أو يطلب تشكيل لجنة تحقيق برلمانية ليثبت اتهامه، وليس كما هي الحال اليوم حيث تطلق الاتهامات جزافاً، فلا من اتُهم يهتم ويبالي محاولاً إثبات العكس حرصاً على سمعته وكرامته، ولا من اتهمه يؤكد التهمة أمام المراجع المختصة، فتبقى الحقيقة ضائعة عند الناس.
في الماضي كانت الحكومات تتألف من وزراء لهم موقف واحد من السياسة الداخلية ومن السياسة الخارجية يدافعون عنها، وليس كما هم اليوم مختلفون عليها داخل الحكومة وخارجها ويثيرون سخرية الداخل والخارج. في الماضي كان تمثيل الأحزاب والكتل في الحكومة على أساس برنامج متفق عليه، وليس كما هي الحال اليوم لكل حزب برنامجه يتناكفون حوله داخل الحكومة كما خارجها، ويعطلون عملها ويلحقون الضرر بمصلحة الوطن والمواطن، واليوم تتألف الحكومات على أساس صداقات وصفقات... في الماضي كانت المعارضة تستقطب الرأي العام وتقوم بدور المحاسبة والمساءلة فيهرب الوزير من الحكومة الى المعارضة خصوصاً على أبواب الانتخابات. في الماضي كان النائب يأتي الى المجلس بسيارة صغيرة متواضعة ويعود بها الى منزله عند نهاية ولايته. أما اليوم فإذا أتى بعضهم بسيارة صغيرة متواضعة، فلا يعود الى منزله بعد نهاية ولايته إلا بسيارة فخمة وضخمة، بل بقصور وممتلكات... في الماضي كان أهل السياسة يبيعون بعض ما يملكون في سبيل السياسة وخدمة الناس. أما اليوم فمعظمهم يتخذ من السياسة وسيلة للثراء وإن على حساب الوطن والمواطن.


في الماضي كان الوزير يدخل الحكومة لخدمة الناس بما يقدّم من مشاريع. أما اليوم فمعظم من يدخلها يبتغي تحقيق مكاسب ومنافع ذاتية. في الماضي كان مقال أو كاريكاتور في صحيفة يسقط حكومة أو يهز عهداً. أما اليوم فمئات المقالات والكاريكاتورات لا تهز إصبع مسؤول أو تزيحه قيد أنملة عن كرسيه أوتوقظ ضميره الميّت، في الماضي استقال وزير بعد أيام عندما اتهمه كاريكاتور بفضيحة "كوتا السكّر"، وقد كتب تحته للوزير: "معك سكّري... خفّف أكل السكّر". أما اليوم فالكلمة فقدت قوّتها عند أصحاب الضمائر الميّتة، وصار السارق واعظاً بالعفّة والنزاهة... وصار يُقال عنه إنه ذكي والآدمي "غشيم".


الواقع أن ما نقل لبنان من الزمن الجميل الى الزمن البشع والبائس هي الطائفية البغيضة وانعدام المواطنة فقضت على الديموقراطية التي بموجبها كانت الأكثرية تحكم والأقلية تعارض، وفرضت مكانها بدعة "الديموقراطية التوافقية"، وليتها توافقية على مبادئ وثوابت وطنية إنما بين أشخاص متخاصمين تجمعهم مصالح مشتركة في حكومة واحدة والى حين... وليس مبادئ مشتركة.


لذلك فلا معنى لتشكيل مثل هذه الحكومات التي تجمع الأضداد خدمة لمصالحهم وليس خدمة للناس، ومن الأفضل تشكيل حكومة ترضي جميع الناس لا حكومة تجمع الجميع لترضيهم ولا ترضي الناس بأن تهتم بأولوياتهم. فاذا كان لبنان لا يحكم إلا بالتوافق، فليكن هذا التوافق على مبادئ وعلى ثوابت وطنية وليس بين أشخاص تذيب مصالحهم المشتركة ما بينهم من خصومات. فالمطلوب إذاً حكومة جامعة لمبادئ وطنية، لا حكومة جامعة لمصالح مشتركة.