وليد أبي مرشد

في إجماع قل نظيره في بلد الملل والنحل، يتفق أقطاب السياسة اللبنانيون على أن الفساد مستشر على كل المستويات في لبنان، وبشكل غير مسبوق في تاريخه الحديث - وربما تاريخ دول العالم الثالث - بحيث أصبح إصلاح الدولة أولوية الأولويات في حياته السياسية. وخلال العقود القليلة المنقضية من عمر «جمهورية الطائف»، أصبح مطلب الإصلاح مسلمًا به، إلى حد اعتماده عنوانًا عريضًا للبرامج السياسية لبعض كتل البرلمان النيابية، فيما أصبحت أنباء الفساد والهدر والسرقة مادة دسمة تتداولها مرارًا وتكرارًا كل وسائل الإعلام في لبنان.
إلا أن عقدة الفساد في لبنان تعود إلى أنه رغم اعتراف كل السياسيين بتفشيه، لا يعترف سياسي واحد بوجوده إلا.. عند «الآخرين»، فيما بات جزءًا لا يتجزأ من تركيبة الدولة الطائفية في لبنان.
عام 1920، يوم فصّل الجنرال الفرنسي هنري غورو كيان «لبنان الكبير» على مقاس الجسم المسيحي فيه.. أحبط مشروع طرحه «وطنًا» لكل أبنائه وطوائفه.
وفي نهاية خمسينات القرن الماضي، يوم سعى الجنرال الإصلاحي فؤاد شهاب لتحويله إلى «دولة»، اكتشف أن من رابع المستحيلات أن يصلح العطار - مهما علا شأنه - ما أفسده الدهر و«الدهريون» من العائلات السياسية اللبنانية.
وفي عام 1989، يوم أعاد اتفاق الطائف صياغة نظامه الطائفي، وفق معادلة مناصفة مسيحية - إسلامية، اصطدم تطبيقها بظاهرة تحوله إلى ساحة جغرافية لتجمعات مذهبية، مستقلة بشؤونها الملّية، ومتعايشة بحذر في شؤونها السياسية مع بعضها البعض.
لبنان اليوم ثامن عجائب الدنيا السبع.
لا هو وطن جامع لكل أبنائه، ولا دولة موحدة لمواطنيها، ولا مجتمع متجانس لعائلاته الروحية.. تكمن علة استمرار نظامه السياسي في ما يتيحه لأبناء طوائفه الكبرى ومتزعميها من «حقوق مكتسبة» - والأصح مصادرة - من الدولة.. فلماذا تعريض هذه المكتسبات للخطر عبر إصلاح الدولة وتعزيز وجودها؟
لأن الإصلاح في لبنان يبدأ بنزع سطوة كثير من الأحزاب والزعامات السياسية على مرافق الدولة، ولأن هذه السطوة اكتست، على مر الأيام، بعدًا مذهبيًا حولها إلى امتداد يكاد يكون «عرفيًا» لنظام المحاصصة المذهبي، لم يعد الإصلاح هاجس بعض الأحزاب فحسب، بل هاجس بعض الطوائف أيضًا.. ولم يعد خافيًا أن أي إجراء سياسي أو إداري يمس «الحقوق» الطائفية في لبنان مستحيل، بل محرم، ولو كانت غايته الإصلاح أو تحديث الدولة. هذه الاعتبارات حولت النظام الطائفي في لبنان إلى «باب رزق» للمعتاشين من ضعف الدولة، وإلى حافز ضمني لتكريس صيغة لبنان الطائفي.
إذن، قبل السؤال عمن، فعلاً، يريد الإصلاح في لبنان، يجب السؤال عمن يريد الدولة في لبنان، فيما أقطابه يختلفون على كل قرار مطلوب، سياسيًا كان أم إداريًا، بدءًا بطريقة معالجة النفايات، وانتهاءً بشروط انتخاب رئيس البلاد؛ يحاولون تجاوز أزماتهم إما بتمديد «الأمر الواقع» - وولاياتهم بالتالي - أو بادعاء حلها على طاولة حوار تفرق أكثر مما تجمع. انقضاء نحو مائة سنة على ترسيم «لبنان الكبير» لم يكن كافيًا لقيام وطن أو دولة، أو حتى مجتمع موحد فيه، ولكنه كان كافيًا لنشوء شريحة من السياسيين والحزبيين تعتاش من الفوائد المحققة من الدولة المحبطة، ولا تمانع، بل تحرص، على استمرارها على حالها حتى في القرن الحادي والعشرين.
بين كيان سياسي مشرذم، ويزداد تشرذمًا مع كل أزمة داخلية ونزاع إقليمي، أصبح مطلب الإصلاح في لبنان، بالنسبة للسياسيين، شعارًا مفرغًا من مضمونه، وبالنسبة للبنانيين، حلم ليلة صيف يحسدهم عليه ويليام شكسبير نفسه.