محمد علي فرحات

سواء شُكّلت حكومة الرئيس سعد الحريري في وقت قريب أو تأخرت، فقد اعتاد اللبنانيون مخاض حكوماتهم، وربما يعتادون الشغور الرئاسي بعد تجربة سنتين ونصف السنة من الفراغ بين رئيسي الجمهورية السابق ميشال سليمان والحالي ميشال عون.

صار انتخاب رئيس أو تشكيل حكومة أشبه بإعادة هيكلة الدولة أو التمديد لها، فالقوى الطائفية التي كانت تتميز بالثبات النسبي منذ إنشاء الكيان اللبناني، صارت قلقة بعد الحرب الأهلية و «اتفاق الطائف»، ومبعث قلقها ارتباطها بقوى إقليمية تميّزت بالتنافس فصارت بعد الثورة الخمينية في حال صراع، بل حرب، على صعيدي النخب الحاكمة والتشكيلات الاجتماعية الاقتصادية الدينية.

وفي حين كان العرب يتغنّون بلبنان وطن السياحة والثقافة والحداثة والتعدُّد الطائفي القائم على الاعتراف والتسامح، بدأوا ينفرون ويعتبرونه مرتعاً للتعصُّب والتطرف، خصوصاً بعد تمدُّد «حزب الله» في الوسط الشيعي اللبناني وانسياقه في الحرب السورية واعتماده لغة الإعلام الإيراني المعادية في معظم الأوقات لدول مجلس التعاون الخليجي وفي مقدّمها السعودية.

إنها الطائفية. يحاول العرب درء أخطارها على مجتمعاتهم وإنقاذ دولهم من لهبها الحارق، لكن مبعث الخطر ليس لبنان الذي يمكن استيعاب طائفيته لكونها متبلورة ومرنة كما حصل بين دول عربية وجماعات طائفية لبنانية قريبة من تلك الدول أو بعيدة عنها.

المشكلة تفاقمت مع طائفية العراق، لأسباب عدة، منها حجم العراق السكاني والجغرافي الكبير، وطائفيته التي كانت مستترة مثل جمر تحت الرماد، وافتقاد العراقيين تراثاً في الاعتراف المتبادل بطائفيتهم وتفضيلهم شعارات ذات أصول تاريخية مثل العروبة أو ذات وجود حديث مثل الوطنية العراقية.

وبعد حرب الخليج الأولى التي أنتجتها الوطنية المتعالية التي عبّر عنها صدّام حسين رمزاً واستبداداً، فوجئ العراقيون بانهيار عروبتهم ووطنيتهم لمصلحة نفوذ شيعي وانكفاء سني مصحوب بحساسية تدفع إلى توسُّل السبل السياسية والعنفية لمواجهة حكومات ما بعد الاحتلال الأميركي الموالية لإيران.

ابتلعت الطائفية بلداً كبيراً هو العراق وتبتلع بلداً آخر لا يقل أهمية هو سورية. لكن وحش الطائفية لم يتمكن من ابتلاع البلدين إلا بعد انهيار اجتماعي ومناطقي وعشائري، جعل منهما مجرد ساحة اختبار لقوى إقليمية ودولية، كما لقوى متطرفة تقتطع أفكاراً وتجارب من أشكال الحكم في القرون الوسطى وتجرّدها من إطارها التاريخي وتنفي عنها مجاورة أفكار مختلفة في العصر نفسه، لتفرضها كما هي بكيانها الصلب، محطمة مجتمعات العراق وسورية ومرتكبة فظاعات تشكل أكبر إساءة للإسلام والمسلمين عبر العصور.

لا أسباب مقنعة سياسياً أو اقتصادياً أو دينياً للارتكابات الطائفية الجرمية في العراق وسورية. إنها حركات أهل الجهل والغزو الباحثين عن سلطة بائسة ضيقة الأفق، فلا يمكن تبرير هذا التحطيم لآثار شعوب المنطقة وهذا القتل الأعمى للمواطنين غير المؤهلين للعيش في ما يسمّونه «دولة الخلافة» كما للمواطنين الرافضين الانصياع لدولة تعتبرهم خونة لما هم مؤهلون له، فتُلحق بهم حكم القتل قبل غيرهم.

إنها الطائفية، إنها الجريمة.

تدمّر الدولة وتسحق الفرد وتطفئ الإيمان وتضع عبادة «الخليفة» في مكان عبادة الله.

ولا يصل عنف الطائفية إلى مدى محدد، فما أن تنتصر طائفة على غيرها حتى تتفتت هي نفسها إلى طائفيات صغيرة متصارعة ثم متحاربة، لكونها تقدّس أدبيات تاريخية مجبولة بعوامل عصبية القبيلة واستبداد القائد وتدليس فقيه السلطان. سبق أن عانت بلاد المشرق العربي ما يشبه معاناتها اليوم، لكنّ أفراداً وجماعات صغيرة في هدأة ما بين حرب طائفية وأخرى، استطاعوا بناء حضارة لأوطانهم وللعالم.

ولكن، ها هم الأسلاف المسلحون اليوم بأدوات الحضارة الحديثة لا يسمحون بهدنة ما بين حرب وحرب ولا ببناء حضاري مفيد لأهل المنطقة وللعالم.

إنهم يواصلون رسالة الاقتتال التي يقدّسونها، في شكل من العبثية يسمّونه دولة دينية، لن تتشكل، وقد يهدمونها بأيديهم إذا تشكّلت، من باب الجهاد الدائم حتى نهاية الكون.

إنها الطائفية - الجريمة.

المسؤولون عنها يخبّئون رؤوسهم، و «أبطالها» يمضون في قطع رؤوس الأحياء وتماثيل الأموات.