عبدالوهاب بدرخان

يبقى عدم اليقين مرجّحاً مع دونالد ترامب، الى أن يثبت العكس. ولا تبدو المؤشّرات الحالية ذات دلالة، فالمسألة لا تقاس بتشاؤمٍ أو تفاؤلٍ، ولا بالخوف والحذر أو بالاطمئنان، إذ إن الرئيس الأميركي الجديد أطنب في الكلام وأثار الكثير من القلق وقليلاً من الآمال، لا للعرب وحدهم بل لمجمل العالم. وهناك مَن يدعون الى عدم الأخذ بحرفية ما قاله لزوم المعركة الانتخابية، بل الى استخراج الجدّية الكامنة في مواقفه. وهناك مَن يقولون أنه أحدث لتوّه انقلاباً في السياسة الأميركية بلونيها التقليديين، الجمهوري والديموقراطي، اللذَين قدّما في الستة عشر عاماً الأخيرة نموذجَين في المنطقة العربية، الأول تدخليٌّ جداً وكارثيٌّ مع جورج دبليو بوش في العراق الذي انتهى تحت الهيمنة الإيرانية، والآخر غير تدخليّ وأكثر كارثية مع باراك أوباما في سورية التي أصبحت تحت الاحتلال الروسي - الإيراني. أي أن الثابت الوحيد في هذين العهدَين، اعتمادٌ مباشر أو غير مباشر على إيران، وبالتالي على الشيعية السياسية في مواجهة السنّية السياسية باعتبارها مسؤولة عن ظهور «الإرهاب السنّي».

فهل أن اختراق ترامب «مؤسسة الحكم» يشكّل انقلاباً فعلياً في السياستين الداخلية والخارجية؟ ثمة مؤشّرات قليلة، والباقي مجرّد افتراضات ومراهنات قد تنطبق أو لا تنطبق على الواقع، في انتظار توجّهات حقيقية لن تتضح قبل شهور. لم يكن جديداً ولا مفاجئاً (ولا انقلابياً) تشديد ترامب على علاقة خاصة مع إسرائيل، فهذا عنوان حَكَم عقلية الإدارات الأميركية واختصر سياساتها تجاه المنطقة العربية طوال العقود الماضية، وتحته اندرجت المراحل المتقلّبة مع العرب من التقارب والتنافر والعداء، وبموجبه ظلّت «الصداقات» هشّة على رغم «المصالح»، بل استحال الارتقاء بهذه المصالح الى تحالفات على رغم إلحاح الظروف. وإذا كانت طرأت تغييرات طفيفة، غير ثابتة وغير جوهرية، على المقاربة الأميركية للعالم العربي بعد تخلّي العرب عن خيار الحرب ضد إسرائيل، إلا أنها استمرّت متماهية مع المقاربة الإسرائيلية، ثم جدّدت سلبيتها منذ هجمات 11 أيلول (سبتمبر) محمّلة مسؤوليتها للعرب حكوماتٍ (قانون «جاستا» آخر التجلّيات وليس الأخير) وشعوباً (بدءاً بإجهاض مشروع السلام الفلسطيني - الإسرائيلي، ثم بالتضحية بالشعب الفلسطيني ومن بعده العراقي والسوري واليمني) ودولاً (بالمساهمة في تفتيت المنطقة الى دويلات).

في الأعوام الستة الأخيرة، أتاحت اضـطرابات «الربيع العربي» لواشنطن فـــرصة تاريخية لتبرهن صدقية نياتها بترجيح الاعتدال على التطرّف وتغليب الاستقـــرار علـــى التوتر في المنطقة. لكنها اتّبعـــت سياسة لمـــ يستفد منها ســـوى دعاة العنف والتطرّف والتخلّف، وكان واضحاً أن المتضرّرين هم رموز الاعتدال والاستقرار فضلاً عن دعاة الإصلاح والتطوير. وحتى «الحرب على داعش» بدت وتبدو ذريعةً ووسيلةً لتطبيق مشروع «الشرق الأوسط الكبير» كما بلوره المحافظون الجدد أيام بوش الابن، ولم يتخلَّ عنه أوباما بل تولّى متابعة «تمكين إيران» الذي بدأ عملياً بـ «التفاهم» على العراق خلال فترة الاحتلال الأميركي. وإذ أضاف أوباما تمكيناً لإيران في سورية واليمن ولبنان، مع جهد لمدّ هذا التمكين الى البحرين، فإنه مرّر كل الانتهاكات الإيرانية لقاء الحصول على الاتفاق النووي، واتّبع بعد ذلك نهج حماية لمكاسب إيران، ولذلك تأبّطت طهران الاتفاق كصكٍّ يشرّع تدخّلاتها ويعترف بنفوذها الإقليمي مقابل «التنازل» الذي قدّمته في برنامجها النووي. وبناءً على هذا «الاعتراف»، أخرجت دورها في العراق وسورية الى الواجهة، ولو أتيح لها لفعلت ذلك في اليمن، لكنها تلعب يمنياً ورقة عدم وجودها على الأرض لتمكين إدارة أوباما من مواجهة السعودية و»التحالف العربي» وإحراجهما بأن ما يقال عن تهديد إيراني ليس واقعياً.

يدخل الرئيس الأميركي الجديد الى هذا المشهد الخليجي - الشرق أوسطي، بما فيه من كوارث ووقائع وخيارات ساهمت فيها أميركا نفسها أو حسمت وجهتها، ليجد حتى أن الدور الإيراني كان الثابت الوحيد في «تفاهمات» واشنطن وموسكو للتعاون في سورية، فهل يريد تغيير هذا الواقع؟ المعروف أن الأميركيين والروس لم يتطرّقوا يوماً الى حدود الدور الإيراني أو الى وجود الميليشيات الموالية لطهران وانعكاساته التخريبية على أي حل سياسي أو حتى عسكري للصراع. وعلى رغم غموض الأفكار الترامبية، تم التركيز على نيّته تغيير الخط الأوبامي، أولاً بتطوير مسارٍ للتعاون مع روسيا، وهذا يتوقف على أجندة «صديقه» فلاديمير بوتين الذي استغلّ تعاون أوباما لإضعافه، وثانياً باستعادة شروط «الاحتواء» في التعامل مع إيران إذا كانت لا تزال صالحة للتطبيق مع الإبقاء على الاتفاق النووي «معدّلاً» أو إلغائه وربما الانسحاب منه.

قد يتناغم تعاون ترامب مع روسيا مع جهود بذلها العرب للانفتاح على موسكو ومحاولة التفاهم معها من دون أن تعدّل شيئاً في السلوك أو السياسة الروسيَّين. ومن غير المؤكّد أن معادلة التهادن مع روسيا مقابل المواجهة مع إيران لا تزال ممكنة في ظلّ حاجة الروس والإيرانيين الى بعضهم بعضاً في سورية، كما أن شيئاً لا يضمن أن تنعكس علاقة ترامب مع بوتين إيجاباً على المنطقة العربية. فأي تقارب بينهما ينجح استراتيجياً أولاً أو لا ينجح إطلاقاً، ويسعى الى التفاهم على السياسة الدفاعية وملف أوكرانيا بما فيه رفع العقوبات المفروضة على روسيا ليتوصّل الى تفاهم على القضايا الإقليمية. وقياساً الى التجربة مع أوباما، فإن عدم التنازل لروسيا في المسائل الكبرى هو ما أفشل التعاون في سورية على رغم كل التنازلات الأميركية، وإذ يستند ترامب الى تلك التنازلات (1 – بإعلانه حجب الدعم التسليحي (غير الموجود أصلاً) للمعارضة، (2 - وإخضاعه الصراع الداخلي السوري لأولوية محاربة الإرهاب وموجباتها، (3 - وعدم اهتمامه ببشار الأسد ومصيره بل اعتباره «شريكاً» مع إيران في محاربة الإرهاب، مع ما يفترضه ذلك من تجاهل وتمييع لجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها الأسد ونظامه... فإنه يتطلّع الى أن يكتفي بوتين بسورية كمقدمة لتعاونهما، في حين أن بوتين يوجّه نظره الى ما يعتزمه ترامب من تغيير في المفاهيم الدفاعية المعتمدة داخل حلف «الناتو».

في أي حال، لم تكن للعرب مشكلة مع هذا الاتفاق النووي بل مع استخدامات إدارة أوباما ونظام الملالي لهذا الاتفاق، خلال التفاوض عليه وقبل إبرامه وبعده. فإلى أي حدّ سيكون ترامب معنيّاً بـ «تصحيح» السلوك الإيراني، خارج المسألة النووية، وهل سيكون لديه تصوّرٌ لـ«مصالح أميركا» مختلفٌ عن ذلك الذي رسمه أوباما وجعل فيه لإيران موقعاً بارزاً ودوراً مستقبلياً؟ وإذا كانت للحرب على الإرهاب، وتحديداً ضرب تنظيم «داعش»، الصدارة في أي استراتيجية ترامبية، فهل يتجاهل حقائق دورَي النظامين السوري والإيراني في رعاية الإرهاب وتوظيفه ليحافظ على المهادنة المجّانية غير المجدية التي أقامها أوباما معهما؟

قد يبدو تلويح ترامب بإلغاء الاتفاق النووي والعودة الى احتواء إيران، نبأً جيداً - نظرياً - بالنسبة الى العالم العربي، إلا أنه لن يكون مجدياً عملياً من دون استراتيجية تعاون شاملة تتوافق فيها أميركا وروسيا على خفض التوتّرات بينهما وكذلك التوتّرات الإقليمية، وعلى محاربة جدّية للإرهاب والمستفيدين منه في دمشق وطهران وبغداد، وبالتالي على دعم حلول سياسية لنزاعات عربية أهلية بات مؤكّداً أنها تهدد الاستقرار العالمي سواء بعمليات الإرهاب أو موجات اللاجئين. وكل توجّه آخر سيكون مجرّد استمرار لنمط الحروب بالوكالة والمتاجرة بمآسي الشعوب والمجتمعات، وهو ما يبقى مرجّحاً لأن مصطلحات السلام على أنواعها لم تتسلّل الى قاموسَي بوتين أو ترامب.

أن يعمّ القلـــق والشك معظم أوروبا والعالم العـــربي إزاء انتخاب ترامب، مقابل ارتيـــاح في موسكو ودمشق وإسرائيل وحتى تركيـــا وأوساط اليمين الأوروبي المتطرّف، فهل في ذلك دلالة على أين ينتمي ترامب (وناخبوه؟) أو على أنه قد ينتهج حيال العــرب سياسة مناقضة لسلبية مواقفه خلال الحمــلة الانتخابية؟ لا بدّ للرئيس الجديد أن يتعامل مع الواقع الذي ساهم معظـــم مريديه في تخريبه والدفع ببعض الدول العــربية نحو التفكّك، وستتوقف على خياراته احتمالات إضعاف الإرهاب أو مضاعفته، كما وحدة الدول أو تقسيمها.