السيد يسين
في نهاية مقالنا الماضي «الفوضى الطليقة والهيمنة المقننة» (10 نوفمبر 2016) تتبعنا التغيرات العالمية الكبرى التي حدثت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وما أدى إليه من الخلل الجسيم الذي أصاب النظام الدولي الذي اتسم بالثبات النسبي في عصر الحرب الباردة، والذي نشأ مباشرة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945، وتحول الحلفاء، ونعني أساساً الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأميركية، الذين نجحوا بعد حرب دامية في هزيمة النازية والفاشية والنزعة العسكرية اليابانية إلى خصوم يتنافسون على الهيمنة العالمية.

وهكذا تحول النظام الدولي من نظام ثنائي القطبية إلى نظام أحادي القطبية تهيمن فيه الولايات المتحدة الأميركية على النظام العالمي، بحكم قوتها العسكرية الفائقة، وتقدمها التكنولوجي، وقوتها الاقتصادية.

وسرعان ما هبت رياح العولمة وفي قلبها الثورة الاتصالية الكبرى وخصوصاً شيوع البث التليفزيوني الفضائي، الذي سمح لملايين البشر أن يتابعوا الأحداث العالمية والإقليمية والمحلية في الوقت الواقعي لحدوثها in the real time، بالإضافة إلى اختراع شبكة الإنترنت التي قلبت الموازين في عالم الاتصال الإنساني.

وقد أدت هذه التطورات الأخيرة إلى سقوط النموذج القديم للأمن القومي وظهور نموذج جديد يقوم على نوعين من الحروب. وهي الحروب الفضائية cyber war وحروب الشبكات net war التي أصبحت العصابات الدولية وتجار المخدرات والشبكات الإرهابية تستخدمها للترويج لفكرها المتطرف، كما يفعل تنظيم «داعش» حالياً.

وبدأت بوادر نظرية اقتصادية جديدة هي «الليبرالية الجديدة» التي كانت في الواقع المعادل الموضوعي للهيمنة الأميركية في مرحلة صعود الولايات المتحدة الأميركية لتصبح إمبراطورية عالمية متكاملة الأركان.

وفجأة، وعلى حين غرة وفي غفلة كاملة من «حراس» الأمن القومي الأميركي، شن عدد محدود من الإرهابيين الذين ينتمون إلى تنظيم «القاعدة»، كما اعترف «بن لادن» زعيم التنظيم، هجوماً مفاجئاً على مراكز القوة الأميركية الاقتصادية، حيث دخلت الطائرات المدنية المخطوفة في قلب مباني مركز التجارة العالمي، ومراكز القوة العسكرية حين هاجمت إحدى الطائرات المخطوفة مبنى «البنتاجون»، رمز القوة العسكرية الأميركية الفائقة.

وهكذا يمكن القول، بغير مبالغة، إن هذا الهجوم الإرهابي المهول والذي ترتب عليه مقتل آلاف الضحايا، مثّل في الواقع نقطة انقطاع في التاريخ العالمي لأنه، لو أردنا الدقة في التوصيف العلمي، لقلنا إنه كان بداية اشتعال الحرب الثقافية بين الغرب ممثلاً أساساً في الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها وبين المنظمات الإسلامية الإرهابية التي انتسبت زوراً وبهتاناً إلى الإسلام.

حين وقعت الواقعة كنت في لندن بعد أن افتتحت، بالاشتراك مع مدير جامعة كنت Kent، مؤتمر الجمعية الأوروبية للعلوم السياسية. وكنت في طريقي للقيام بجولة على مكتبات لندن الزاخرة بالكتب الحديثة حين وصلتني مكالمة تليفونية من مدير مكتب جريدة «الأهرام» في لندن، وقتها، الأستاذ «عاصم القرش»، أخبرني فيها أنه حدث هجوم إرهابي على مباني مركز التجارة العالمي.

لم أستوعب على الفور الدلالة الخطيرة للحدث إلا بعد أن أسرعت إلى الفندق الذي كنت أقيم فيه، وشاهدت على شاشة التليفزيون التصريحات التي أدلى بها كل من الرئيس الأميركي «بوش الابن»، والرئيس الفرنسي «جاك شيراك»، ورئيس الوزراء الإيطالي «برلسكوني».

وحين عدت إلى القاهرة، وكنت بصدد كتابة سلسلة مقالات عن حوار الحضارات، أوقفت هذا المشروع، وشرعت في دراسة الدلالات الكبرى للحدث من أوجهه كافة. وقررت أنه لا بد من صياغة إطار نظري لتحليل مختلف أبعاد الحدث، وإن كنت من واقع تحليلي لمضمون تصريحات قادة الدول الغربية وفي مقدمتهم خطاب الرئيس الأميركي «بوش» الابن، أدركت على الفور أن هذا الحادث الإرهابي سيكون بداية «حرب ثقافية» كبرى بين الغرب والعالم الإسلامي.

وتذكرت على الفور كتاب عالم السياسة الأميركي الشهير «صمويل هنتنجتون»، «صراع الحضارات» الذي أثار جدلاً عالمياً، لأنه قرر فيه أن الحروب القادمة ستكون حروباً ثقافية، خصوصاً بين الغرب والحضارة الإسلامية من ناحية، وبين الغرب والحضارة الكونفشيوسية من ناحية أخرى.

وإدراكاً مني للخطورة البالغة لهذا الحادث الإرهابي قررت تأليف كتاب، صدر فعلاً عام 2003 وعنوانه «الحرب الكونية الثالثة: عاصفة سبتمبر والسلام العالمي» (القاهرة، الطبعة الأولى عام 2003 عن دار نشر ميريت).

ونظراً إلى أهمية الإطار النظري الذي وضعته ونشرته في صدر الكتاب وعرضه لمختلف أبعاد الحادث الإرهابي، قررت أن أعرض لخطوطه العريضة في مقالي الراهن لأنه تنبأ مبكراً بأنه يمثل في الواقع إرهاصات الحرب الثقافية التي ستدور بين الغرب والعالم الإسلامي حتى لو وجهت الضربات العسكرية ضد التنظيمات الإرهابية الإسلامية، لأنه كان لا بد لها أن تصيب أيضاً المجتمعات الإسلامية كما حدث في الغزو الأميركي لأفغانستان والغزو الأميركي للعراق.

الفقرة الأولى من الإطار النظري الذي وضعته تمثلت في مجموعة من التساؤلات عن الحدث الإرهابي ذاته. وقد تساءلت: هل صحيح أن حدث الحادي عشر من سبتمبر 2001، كما وصف في كثير من الكتابات، يمثل فاصلاً تاريخياً بين ما قبله وما بعده؟ وهل هو يمثل «قطيعة تاريخية» بين عصر وآخر، وعلى غرار القطيعة المعرفية في مجال الفكر؟