أمين طلال

عايشنا ثقافة الصحوة سنين عديدة، ولا بد من الإقرار بأنها مرحلة ومضت، إلا أن مضيها لا يعني موتها، فللصحوة آثار باقية لن تختفي، كل ما في الأمر أن الصحوة تضاءلت اليوم وستستمر في التضاؤل حتى تأخذ حجمها الطبيعي

الحذر، التوجس، الاحتراس، الخشية، البقاء في حالة تنبه دائم، النظر بعين الريبة والشك لكل جديد وغير مألوف، عدم الاطمئنان لأي شيء إلا بعد إخضاعه للفحص المطول، كل هذه المفاهيم تعتبر من أبرز عوامل البقاء في البيئات العدائية التي يعيش أبناؤها حياة الكر والفر، كالعيش في صحراء جرداء لا زرع فيها ولا ماء، أو بين الأدغال حيث الأخطار تتربص في الخارج، إنها أسوار تضطر الجماعة لبنائها في عقل الفرد لا ليطمئن ويهدأ لكن ليبقى في حالة حذر دائم، فالبيئة لا ترحم، والأخطار تحدق في الخارج، وفي مثل هذه الظروف العدائية فإن البقاء هو الغاية، وهي غاية لا تتحقق إلا باليقظة الدائمة والخوف والكثير من القلق، لأن أي درجة من درجات الغفلة في هذه البيئات قد تعني الهلاك، لذا يتم افتراض الأسوأ تجاه الغريب والجديد وغير المألوف على الدوام.
ومشكلة الصحوة أو إحدى مشاكلها أنها تبنت ذات الثقافة التي يحملها أبناء تلك البيئات العدائية، فالجديد سواء فكر أو تقنية هو موضع ريبة وشك، والغريب القادم قد يحمل معه الشر، والمفهوم المستوحى من بيئة مختلفة هو بالضرورة يهدم ولا يبني، لقد بنت الصحوة لذاتها منظومة أفكار ومفاهيم تؤصل للقلق وتستثمر فيه، أوهمت المجتمع أن مجرد البقاء في البيئة المدنية هو الغاية الأسمى لا التحضر والتطور، ولكي تتحقق هذه الغاية فمرحباً بالقلق بكل درجاته، لكي نبقى فلا بد من تقديم سد الذرائع على جلب المصالح، ولكي يبقى القلق فلا بد من الإيمان بأننا مستهدفون، وأن سهام الأعداء تحيط بنا من كل اتجاه، ولتجنب تلك السهام قدر المستطاع فالحذر الحذر، وإن فقدنا الإحساس بالاطمئنان وراحة البال فهذا أهون من غفلة قد تورد المهالك.
وهكذا نجد أن الثقافة التي تبنتها الصحوة لا تهدف إلى طمأنة المجتمع إنما لإبقائه في حالة قلق دائم، والقلق قد يضمن البقاء لكنه لا يضمن الحياة، قد يضمن الحفاظ على النوع لكنه لا يضمن إعمار الأرض، قد يضمن التواجد فقط لا التطور والتحضر، الجماعات الإنسانية التي نجحت في البقاء حتى الآن في البيئات العدائية وتحدت كل الظروف الصعبة لم تنجح في الخروج من حالة البدائية أبداً، كالقبائل التي لا تزال تعيش في أدغال أفريقيا وغابات الأمازون، تلك قبائل لا تزال موجودة برغم صعوبة الحياة، لكن وجودها بلا تأثير، شأنها اليوم شأن تماثيل معروضة في متحف ليشاهدها الزوار، أو حيوانات برية تعيش في محمية ليستمتع برؤيتها السياح، هذا ما تضمنته ثقافة القلق.
لقد زرعت الصحوة في عقلية الفرد أنه مستهدف في دينه ودنياه، وعلى المستهدف أن يقف طيلة حياته وقفة جندي في معركة حامية الوطيس، وعليه ألا يلين ولا يتهاون أو يغفل وإلا أصابته السهام في مقتل، وحياة الجندي في المعركة على أهميتها إلا أن الأهم هو الحفاظ على بقاء الجماعة، هنا طبيعي أن يشعر الإنسان بأنه في خضم معركة وأنه مسؤول فيها عن الحفاظ على المجتمع ككل، وعلى حياض الدين والأخلاق والدفاع عن نقاء العقيدة، وطالما هذه مهمته وهي مهمة عظيمة لم يُكلف بحملها من الأساس، فلا بأس عليه أن يحمل قناعات مشوهة ومبادئ كريهة كأن لا يلاين ولا يلاطف ولا يسلم للرأي المخالف وإن كان الخلاف في حدود المباح، لا إنكارا منه على حكم الإباحة إنما لأن الجندي لا يساوم ولا يلين ولا يغفل للحظة كي لا يتعرض للهزيمة، وتكون هزيمته مدخل الأعداء للدين، فمرحباً بالموت في سبيل الله، ولْتُرق الدماء، نحن للإسلام حِصن ونحن جنده الأوفياء.
لقد عايشنا هذه الثقافة سنين عديدة، ولا بد من الإقرار بأنها مرحلة ومضت بلا شك، إلا أن مضيها لا يعني موتها، فللصحوة آثار باقية لن تختفي إلى أن يشاء الله، كل ما في الأمر أن الصحوة تضاءلت اليوم وستستمر في التضاؤل حتى تأخذ حجمها الطبيعي كمكون صغير ضمن مكونات المجتمع، إنها لم تمت إنما فقدت جاذبيتها وقدرتها على حشد الجموع، وما عاد لها ذلك التأثير الذي كانت عليه بالأمس، وحين نتحدث عن الصحوة فلا بد أن نضع في الاعتبار أننا نعيش اليوم "ما بعد الصحوة"، وما بعدها ليس انحلالا وتفسخا كما يشاع، وأيضا ليس تعددية وانفتاحا كما يقال، ما بعد هو عيش على ظلال الصحوة، والعيش على الظل دلالة تخبط وتيه، والتيه بدوره أولى مراتب اليقظة، تليه محاولة لملمة الذات على أمل العودة للطريق القويم، فإما اليقظة أو سيأتينا السياح ليستمتعوا بمشاهدتنا.