عمار علي حسن

لم تولد أفكار «داعش» بغتة، وهي ليست أصيلة من التنظيم أو عنه، ولا تحمل أي إبداع جديد ينسب إليه، إنما هي في جانب منها ترديد لآراء قديمة، أو مراكمة عليها، أو اقتطاف منها، وفق مقتضيات عملية أو براجماتية تذهب إلى تحقيق الهدف من أقصر طريق، بغض النظر عن تماسك الفكرة، أو مطابقتها لما يرى فقهاء الدين أنه «الشرع» ولا حتى مع النص المؤسس للإسلام وهو القرآن الكريم.

ويتعامل «داعش» مع الأفكار باعتبارها مجرد مادة استعمالية، وليست أفكاراً دينية ولا فلسفية ولا إنسانية، ولا تحمل قيماً قابلة للنقاش أو الجدل، وإنما ترمي من خلالها إلى صناعة أيديولوجية، تحافظ، بقدر المستطاع، على تماسك التنظيم، من خلال ربط عناصره بقياداته وأهدافه، وتسهيل عملية التجنيد، كما أن التعبئة والمخاتلة التي يقوم بها التنظيم لقطاعات من الشباب إن تم ربطها بالأهداف المباشرة لها، لن تحمل الجاذبية والإغراء الذي يكمن في الأفكار أو الأيديولوجيات. وتستعمل الأفكار أيضاً في إطالة عمر التنظيم، وهو ما سبق أن حاوله تنظيم «القاعدة»، حيث كلفت قياداته الميدانية والرمزية، بعض منتجي المعرفة الدينية التقليدية من بين صفوف التنظيم، بتأليف أو توليف تصور بوسعه أن يربط عناصر التنظيم به، ويجعل ما يفعلونه على بشاعته مقبولاً لديهم، ويصطاد له زبائن جدداً، ويساعده في تسويق وجهته، والرد على منتقديه، لا سيما من منتجي الخطاب الديني المضاد.

وكعادة التنظيمات الدينية المسيسة، بمتطرفيها ومدعي الاعتدال فيها، لم يكن بوسع «داعش» أن يبدأ من الصفر في تصوره الفكري، وهذه خاصية بنائية في تفكير أتباع هذه التنظيمات، فهي ابتداء لم تحدث أي قطيعة فكرية مع الماضي، بل توظفه في صناعة مسلكها، وتبرير سلوكها. وهي ثانياً لا تبدأ من الصفر في كثير من عناصرها، الذين قبل أن ينضموا إلى تنظيم ما يكونون قد انتموا إلى آخر سابق عليه. فعلى سبيل المثال فإن عناصر الصف الأول في «داعش» انحدروا من «القاعدة» والأخير هو خلاصة ما توصلت إليه «التنظيمات الجهادية» التي شهدها العالم الإسلامي منذ أوائل سبعينيات القرن العشرين، أو كان الطور الأخير لها في القرن العشرين.

ومن ثم نجد أن «داعش» نهل من المخزون «الفكري» لـ«القاعدة» ولا سيما في الجانب المتعلق بـ«الجهاد» الذي يعني في الحقيقة لديهم ممارسة العنف المادي في أقسى وأقصى صوره، وكذلك أفكار جماعة «الإخوان» خاصة في المسائل المرتبطة بـ«استعادة الخلافة» و«الطاعة» داخل التنظيم، و«تمثيل الإسلام» أو ادعاء التعبير عنه تعبيراً حقيقياً، ونفي هذا عن سائر المسلمين!

ويؤدي هذا إلى تكرار الكثير من الأفكار والتعبيرات والمصطلحات بين الحركات والتنظيمات المتعاقبة، التي تتم استعارتها من سياق إلى آخر، بلا تأنٍ ولا تبصر ولا عناية، فالمهم أن تؤدي وظيفتها الآنية في التبرير والخداع والمخاتلة، من خلال إطار مزيف، تتم العودة إليه، أو نقطة مركزية وهمية، يتم الانطلاق منها. وتحتاج هذه الاستمرارية في استعارة المفاهيم والمصطلحات إلى دراسات متعمقة، بوسعها أن تظهر حجم التزييف الذي يصم أفكار «داعش»، شأنه شأن سابقيه من التنظيمات المتطرفة والإرهابية.

ولا يعني هذا أن «داعش»، في ممارساته على أرض الواقع، يبدي تمسكاً أو عناية بهذه الأفكار، التي وردت في كتب يستند إليها، ويحيل إليها. فحين تطرأ الظروف، وتتوالى الأحداث الجسام، يتخفف التنظيم من هذه الأفكار، ويذهب مباشرة إلى ما يحقق أهدافه، ولديه في هذه ما يقوله لأتباعه، حفاظاً على تماسكهم. ولكن «داعش» يعود إلي هذه الأفكار في لحظات التسويق والتجنيد والتعبئة التي لا تتوقف.

وبالقطع فإن التنظيم يستفيد من موروث طويل من الأفكار التي أنتجت في سياقات شبيهة، إلى حد ما، بالسياق الذي يحيط بـ«داعش» في الوقت الراهن، وحوتها كتب قديمة، نقلت منها كتب حديثة ومعاصرة، أثرت في الأفكار التي تحكم «داعش»، والتي جاءت في كتب مثل «إدارة التوحش» لأبي بكر ناجي، و«ملة إبراهيم» لأبي محمد المقدسي، و«فرسان تحت راية النبي» لأيمن الظواهري.. إلخ!

إن هذه الكتب لا تساوي شيئاً إن خضعت لمقاييس العلم الذي يعتمد على البرهان والمنطق ولكنها ساهمت في تعبئة أجيال من شباب العرب والمسلمين خلف أفكار التنظيمات الإرهابية والمتطرفة وها نحن ندفع جميعاً ثمن ذلك.