محمد العسومي

تطلب حركة رؤوس الأموال الدولية الحصول على تطمينات وضمانات لاستثماراتها في مختلف بلدان العالم، حيث تعتبر تقييمات وكالات التصنيف الائتماني الأميركية الثلاث الرئيسة أحد أهم المؤشرات التي يعتد بها لاتخاذ القرارات الاستثمارية، سواء من قبل القطاع الخاص والمؤسسات الحكومية من صناديق استثمارية وسيادية. يلاحظ في الآونة الأخيرة، وبالأخص بعد الأزمة المالية العالمية وأزمة منطقة «اليورو» ازدياد الانتقادات لهذه الوكالات واتهامها بالانحياز للشركات والمؤسسات الأميركية على حساب بقية بلدان العالم، وذلك بهدف جذب المزيد من الاستثمارات الخارجية للاقتصاد الأميركي.

وتكمن أهم المحاولات لإقامة وكالات منافسة في هذا المجال، تلك القادمة من الاتحاد الأوروبي، حيث يقول الألماني «توشتن هيزيش» الذي يقود حملة لتأسيس وكالة ائتمان أوروبية: «نريد أن نصبح الصوت الأوروبي في سوق الائتمان». من جانبها تحاول روسيا إقامة وكالة تصنيف ائتماني خاصة بها على أن تأخذ طابعاً دولياً، في حين لا توجد محاولات في بلدان أخرى متضررة، كاليابان والبلدان الناشئة في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، والتي تمنحها وكالات التصنيف بين فترة وأخرى تصنيفات تزيد من مصاعبها الاقتصادية بسبب عزوف قطاع الأعمال عن الاستثمار فيها.

وكمثال على ذلك، فإن تصنيف الاقتصاد الأميركي لدى هذه الوكالات هو الأعلى عالمياً عند AAA.

وذلك على الرغم من المصاعب التي يمر بها الاقتصاد هناك والمستوى العالي للدين العام الذي تجاوز حجم الناتج المحلي الإجمالي البالغ بأكثر من 20 تريليون دولار، في حين هناك اقتصادات أقوى وأكثر استقراراً، كالاقتصاد الألماني والبريطاني واقتصادات الدول الاسكندنافية تحصل على تصنيفات أقل من ذلك.

الحقيقة أن كل هذه المحاولات لم تؤت ثمارها بعد، فقطاع الأعمال والمستثمرون ما زالوا متمسكين بتصنيفات الوكالات التقليدية، وذلك رغم التفاوت الكبير بين تصنيفات هذه الوكالات حتى فيما بينها في الكثير من الحالات الخاصة بهذا البلد أو ذاك. ذلك يعني أن عملية التقييم تحمل طابعاً مرتبطاً بمصالح كل وكالة أكثر منه تقييماً موضوعياً، كما أن الأمر لا يخلو من محاولة توجيه الاستثمارات بما يخدم توجهات تعبر عن المصالح وتحقيق الأرباح، بما في ذلك تلك الخاصة بالمضاربات في مختلف القطاعات.

لذلك أضحت مسألة وجود المزيد من وكالات التصنيف المتعددة والتابعة لأكثر من بلد مسألة مهمة للغاية للاقتصاد العالمي، فإذا كانت هناك وكالات أوروبية مهنية رفيعة وأخرى روسية وصينية ويابانية وربما عربية، فإن مختلف التصنيفات ستكتسب مصداقية أكبر، كما أن اشتداد المنافسة بين وكالات هذه الدول سيؤدي إلى إعطاء صورة أوضح وأكثر واقعية لاقتصادات الدول ومؤسساتها. هل تنجح هذه المساعي الأوروبية ونرى قريباً وكالة أوروبية للتصنيف الائتماني خصوصاً وأن الاتحاد الأوروبي الداعم لهذا التوجه يملك كافة الإمكانات والقدرات البشرية والمهنية والمادية لإنجاح ذلك؟ هذا أمر ممكن رغم الصعوبات والانتشار الواسع لوكالات الائتمان الحالية، والتي يصعب زحزحتها بسبب الخبرة والدعم القوي من أكبر اقتصاد عالمي.

ومع ذلك فإن أمر وجود وكالة أوروبية للتقييم الائتماني أضحى أمراً ممكناً أكثر من أي وقت مضى، فألمانيا التي تتزعم هذا التوجه في أوروبا مُصرة على المضي قدماً لإنشاء هذه الوكالة وربما وكالات أخرى في المستقبل ليس لضرورة وجود تعدد فحسب، وإنما للحد من الضرر الذي تلحقه تصنيفات الوكالات الأميركية ببعض الاقتصادات، بما فيها الأوروبية، كتقييماتها في السنوات الأخيرة حول اليونان، والتي ألحقت ضرراً بالغاً باليونان وباقتصادات دول الاتحاد الأوروبي كلها.

إذن الإمكانية متاحة، خصوصاً وأن مصداقية الوكالات الائتمانية الحالية اهتزت كثيراً بعد الأخطاء التي ارتكبتها، سواء بقصد ودون قصد في العديد من المناسبات، وبالأخص تقييمها لبنك «ليمان براذرز» قبل الأزمة، مما يعني أن العالم سيشهد، ربما قريباً، تعدداً في وكالات الائتمان، وهو ما سيصب لمصلحة الاقتصاد الدولي.